المقدمة :
إن النظام الاقتصادي الموجه الذي يتميز بتخطيط و مراقبة وتنظيم الاستثمار والاستهلاك , ومتحكمة فيه إدارة مركزية قوية عن طريق قطاع عام يين جليا ضعف الاقتصاد الوطني وتبعياته للخارج بصفة مذهلة فالمؤسسات الوطنية التي كانت من بين الأهداف التي أنشأت من أجلها توفير السلع والخدمات , لم تكن قادرة على تحقيق ذالك , وبالتالي أصبحت تشكل عبآ ثقيلا على الدولة التي كانت تحول العجز المتراكم لهذه المؤسسات الناتج أساسا عن كونها وجدت لا لتحقيق النتائج الاقتصادية , بل لأجل القيام بدور اجتماعي حتى ولو كان ذلك على حساب النجاعة الاقتصادية ,مما جعلها تكون دائما عجزة على الوفاء بالتزاماتها المالية اتجاه البنوك والمؤسسات المالية الأخرى نتيجة لكل هذه الظروف والصعوبات , فقد فكرت الدولة في إيجاد بعض من الإصلاحات الضرورية التي من شأنها إخراج البلاد من أزمتها الخانقة والنهوض باقتصادها .
لقد تمثلت هذه الإصلاحات في مرحلتها الأولى في التفكير في إعادة الهيكلة العضوية والمالية لمختلف المؤسسات العمومية ثم تلتها إجراءات أخرى اتخذتها الدولة للخروج من هذا المأزق لكن بدون جدوى ,لأن كل الإصلاحات باءت بالفشل ولم تتمكن من مواجهة كل الصعوبات المالية والاقتصادية التي تعاني منها المؤسسات العمومية بل بالعكس فقد تأزمت الوضعية أكثر من السابق بفعل تدهور قيمة الدينار وقلة الصادرات و زيادة الواردات ,وبالتالي ازدادت و تراكمت مديونية المؤسسات العمومية التي أثرت سلبا على حيويتها و نشاطها الاقتصادي .
ونظرا لعدم نجاح هذه السلسلة من الإصلاحات الاقتصادية فقد فكرت الدولة في إنتاج سياسة اقتصادية جديدة , تهدف إلى إخراج البلاد من هذا الوضع المتأزم في إطار إجراءات جديدة بأكثر صرامة , والمتمثلة في التطهير المالي و الاستثماري اللذان يمهدان للدخول في اقتصاد السوق
إن التطهير المالي يعتبر كضرورة حتمية من أجل إعادة التوازن المالي و الهيكلي لمختلف المؤسسات العمومية و هذا لكي يتسنى لها تغطية كل التكاليف والأعباء الخاصة بها.
وقبل التطرق إلى دراسة هذا الموضوع , لابد من طرح مجموعة من الأسئلة و التي سنحاول الإجابة عنها من خلال دراستنا :
ما هو التطهير المالي ؟ و ما هي أهميتها ؟
هل التطهير مرحب به من المؤسسات مهما كان نوعها ؟ وهل المؤسسات مهيأة لرفع هذا التحدي ؟
ما هي الإجراءات التي تم تطبيقها من أجل الوصول إلى التطهير ؟
ما هي العمليات المستقبلية في مجال التطهير ؟
هل التطهير الحالي هو العلاج الشافي لداء العجز المالي التي تعاني منه الكثير من المؤسسات العمومية ؟
هل يمكن اعتباره منشط حيوي تتلقاه المؤسسات العمومية حتى تستطيع الاستمرارية ؟
هل يستطيع التطهير المالي إنقاذ المؤسسات العمومية من الإفلاس ؟
هل هناك تناقضات في المصالح عند تطبيقه ؟
من سيدفع الفاتورة ؟ ثم كيف ومتى ؟ ومن سيقوده ؟
و سنحاول من خلال البحث الإجابة عن هذه الأسئلة الرئيسية التي تحتويها إشكاليتنا من خلال المنهجية التالية :
قد تناول تقييم البحث جزء نظري و جزء تطبيقي وسنعالج في النظري فصلين أساسيين :
الفصل الأول : عرض لطبيعة الاقتصاد الجزائري بحيث يتم التركيز على أهم المراحل التي مرت بها المؤسسات العمومية الاقتصادية الجزائرية منذ الاستقلال لإلى غاية يومنا هذا ,وقد قسم هذا الفصل إلى ثلاث مباحث :
المبحث الأول : هو التوجيهات الاقتصادية للجزائر خلال الفترة ما قبل سياسة الإصلاحات الهيكلية أما المبحث الثاني : يتطرق إلى مجموعة الإصلاحات الهيكلية التي قامت بها الدولة الجزائرية , أما الثالث يتطرق إلى أسباب فشل المؤسسات العمومية في تحقيق أهدافها , و ما كان يجب أن تقوم به في هذا الإطار ثم إلى خلاصة الفصل .
الفصل الثاني : تطرقنا فيه إلى جوهر الموضوع و أساسه , ومن أجل هذا فهو يناقش ثلاث مباحث ترتبط جميعها بمفهوم التطهير المالي و إجراءاته .
المبحث الأول : يتمثل في تعريف التطهير المالي و أهدافه و عناصره , أما المبحث الثاني فيتطرق إلى العمليات المسبقة للتطهير المالي ثم الإجراءات المحاسبية القانونية والمالية ,ثم العمليات التقنية لهذه الإجراءات على مستوى مختلف المؤسسات العمومية في المبحث الثالث يتطرق إلى دور مختلف العملاء بسير عمليات التطهير المالي ,حيث ركزنا على أهم الموارد التي تعتمد عليها الدولة في سياسة التطهير المالي , ثم تحديد المسؤوليات على جميع المستويات بغية التطبيق الفعلي لإجراءاته ,ثم نتعرض إلى التناقضات المطروحة في تطبيق هذه السياسة .
تمهيد :
لقد خاض الشعب الجزائري حربا شرسة من اجل الحصول على حريته وسيادته على ثرواته ,وعند الاستقلال وجدت الجزائر نفسها في وضعية مزرية وصعبة ومعقدة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ,فلقد ورثت الجزائر بعد حرب التحرير هياكل اقتصادية مفككة بعد إن كانت في فترة الاحتلال مستغلة من طرف المعمرين .
إن هذه التركة ألزمت على الدولة الجزائرية تجنيد واستثمار كل طاقاتها المتوفرة في البلاد,للقضاء على ظواهر التخلف التي كان يعاني منها الجزائريون وجعل الجهاز الاقتصادي يشتغل لتلبية حاجات المواطنين .
ونظرا لحالة الانهيار التي كان عليها الاقتصاد الوطني آنذاك ,استلزم على الدولة إنشاء قطاع عام بامكانه تعويض الدور الذي كانت تقوم به الشركات الفرنسية ,وكذلك نظرا للتوجهات السياسية وتبنى الاشتراكية كنموذج تنمية تخضع ملكيته لها على خلاف اغلب الدول المستقلة حديثا , والتي تبنت نظاما تلعب فيه الدولة دورا رياديا ,تعتمد في تسييره على خطط التنموية تهدف إلى تطوير القطاعات الاقتصادية ( زراعة ,صناعة ,خدمات...) تأخذ في الحسبان قبل كل شيء تحقيق الأهداف الاجتماعية ,وتم العمل بذلك في بداية الثمانينات , ثم مع الأزمات المتعاقبة بدا التفكير تدريجيا في الدخول إلى اقتصاد السوق ,وعليه سيتم دراسة الفترة التي سبقت عملية الدخول إلى اقتصاد السوق في المباحث التالية
المبحث الأول : ماهية القطاع العام ( لمحة عن القطاع العام )
المطلب الأول :
تعريف القطاع العام : يقصد بالقطاع العام وحدات قطاع الأعمال التي تدار من قبل الحكومة ,والتي يمكن تدار من قبل القطاع الخاص ,وتقوم المؤسسات العامة بإنتاج السلع والخدمات وتقديمها إلى الجمهور بالأسعار الإدارية .
ويؤدي هذا النشاط الحكومي لإدارة هذه المشروعات أو المؤسسات إلى تعطيل آليات السوق وتشويه المنظومة السعرية , وعادة ما يرتبط القطاع العام بالتخطيط المركزي للاقتصاد , ولكنه غير ضروري لوجوده .
ويدخل العامل السياسي بقوة عندما تتدخل الدولة عن طريق التعليل المباشر للمشاريع الإنتاجية .
ويستهدف وجود القطاع العام تغيير الهيكل الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية عند محاولة تخليصه من اية شوائب محلية أو أجنبية تقف في طريق استقلاله الاقتصادي والسياسي.
المطلب الثاني :
القطاع العام ومفهوم تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني : تدخل الدولة يعني وجود الدولة بأجهزتها القانونية والسياسية والأمنية , فالدولة أو الحكومة هي قطاع الإدارة العامة وهي تؤثر في الأداء الاقتصادي للوحدات الإنتاجية بصرف النظر عن شكلها القانوني , فللدولة دور هام في الاقتصاد تنظيمي ورقابي وتوجيهي وتصحيحي , ويتمثل تدخل الدولة على صعيد السياسات الاقتصادية العامة من خلال توجيه الأنشطة الاقتصادية والتأثير فيها , وذلك في ما ترسمه من أهداف اقتصادية واجتماعية واضحة ,وتقترن السياسات الاقتصادية بسياسات نقدية ومالية وسياسية التوظيف والأجور.
إن مجرد تدخل الدولة في الاقتصاد قد يكون لمصلحة القطاع الخاص, وتعديل مسار الاقتصاد نتيجة سلوكيات القطاع الخاص نفسه , وهو أمر لا علاقة له بالقطاع العام .
ولابد من التفرقة بين دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتوسع القطاع العام , فتعظيم دور الدولة في الحياة الاقتصادية لا يتأتى بالضرورة من خلال وجود قطاع عام قوي أو من خلال تخطيط مركزي فحسب , فوجود قطاع خاص لا يتنافى مع وجود تخطيط تأشيري فاعل في تخصيص الموارد إذا ما اقترن ذلك بسياسات نقدية ومالية جدية , ومع
وجود دولة قوية تمارس سيادتها وسلطتها الرقابية في التحقيق من تنفيذ هذه السياسات وليس أدل على ذلك من إن التخطيط التاشيري في دولة مثل فرنسا ليس له الدور نفسه في ظل حكومة الحزب الاشتراكي الذي كان له من قبل .
المطلب الثالث :
الأسس العقائدية الإيديولوجية للقطاع العام : لابد لنا في البداية من ملاحظة إن المجالات المحددة لكل من القطاع الخاص والقطاع العام , لابد من إن يعكس إما صراحة أو ضمنا , الفلسفة التي تنتهجها الدولة والمجتمع حول كل من دور الدولة في الحياة المجتمعية والتنظيم المجتمعي المستهدف , ولنتذكر إن دور الدولة كان يعتبر في البداية مقتصرا على واجبات الأمن والدفاع والعدالة , ولكن بالتدرج ظهر أن هناك مجالات لا يريد المجتمع إبقاءها في إطار النظام السعري , وهي مجالات الرفاه الاجتماعي ,وفي مقدمتها التعليم والصحة والضمان الاجتماعي و بعض الخدمات الضرورية مثل خدمات المرافق العامة من موانئ وطرق و ربما أيضا ماء و كهرباء ,وقد زاد بالتدرج دور الدولة في تلبية هذه الحاجات الاجتماعية .
فقد تعرضت الأسس العقائدية الإيديولوجية التي كانت قد شكلت السياسة الاقتصادية و تطبيقاتها قبل الحرب العالمية الثانية , تعرضت كلها إلى الزوال بفعل ما جاءت به الحركات القومية من تغييرات هيكلية جذرية استهدفت توسيع القطاع العام , وصارت الدولة تؤدي دورا مسيطرا كما أدت إلى نمط مختلف لتوزيع الدخل الأمر الذي دفع بطبقات واسعة من الفقراء المعدمين إلى المجرى الرئيسي للاقتصاد الوطني ,ولم يعد تقرير توزيع الناتج القومي بواسطة القوى العمياء لآلية السوق وحدها فأصبح ينظر إلى تلبية الحاجيات الأساسية في السياق الحالي كمقوم إنمائي.
لأنها تشكل دافعا ومولدا لنشاط العمل , كما أن القطاع الحكومي والعام يوفر فرص عمل كثيرة , غير أن القطاع العام بموجب تحديد الصارم له إذا عنينا بالقطاع العام القطاع الإنتاجي بذاته وخارج الأنشطة الوزارية التقليدية لا يوفر إلا جزءا محدودا من
التقديمات التي توفرها الوزارات المختصة أخذ القطاع العام يتوسع على نحو مهول في الأقطار النفطية , بغض النظر عن توجهاتها الإيديولوجية , فقد صارت تمتلك الشطر الأعظم من مجموع الناتج القومي الإجمالي العربي , وتبع ذلك زيادة كبرى في الخدمات الاجتماعية وفي المهمات الترفيهية التي تتولاها الدولة في هذه الأقطار .
والسؤال هل كان من الضروري قيام قطاع عام ولا مفر من ذلك؟ أدت الصدفة التاريخية والمرتكزات الثقافية في البلدان العربية دورا مهما في ظهور المشروع الحكومي وزيادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي .
1. ف " تعريب الإدارة " الأجنبية بعد الاستقلال أورثت البلدان العربية المستقلة حديثا وضعا راهنا , فإلى جانب الجهاز الإداري هناك مشروعات عامة كبيرة , تحت إشراف الإدارات الإستعمارية لأسباب سياسية و اقتصادية , فكان على الدولة الجديدة أن تستمر في إدارة هذه المشروعات و المؤسسات .
2. ورثت كل البلدان العربية في الوقت نفسه علاقات خارجية مكيفة ومرتبطة بالمراكز الغربية , وكانت تجارتها في حالة عجز مستمر ,الأمر الذي اضطر حكومات هذه البلدان إلى التدخل في ميدان التجارة الخارجية .
3. ما كان معروفا من مدركات وموارد طبيعية أو تم إكتشافه فيما بعد آل إلى الدولة إدارة و ملكية ,و لما كانت الموارد الطبيعية هي المصدر الرئيسي للعملات الخارجية , وتساهم في نصيب كبير في الدخل القومي ,فقد تحولت ميزانية الدولة إلى مركز حساس للنصيب الاقتصادي .
4. في مراحل لاحقة تم " تقريب " النشاط الإقتصادي الحكومي والفردي المملوك للأجانب في ظل الإدارة الإستعمارية ,الأمر الذي أملته ظروف خاصة في كل بلد , وأمتد النشاط الإقتصادي للدولة ليشمل المشروعات الفردية والحكومية " المعربة " أو المجوهرة في بعض البلدان كما حدث للجزائر.
5. إلحاح التنمية الاقتصادية وضرورة تحقيق معدلات نمو عالية و التوجه العام نحو التخطيط الاقتصادي ,دعا إلى مزيد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لتأمين تنفيذ الخطط الاقتصادية ,كما طرح شعار الاشتراكية سياسيا واقتصاديا لتبرير تأميم القطاع الخاص و إحكام القبضة على الاقتصاد القومي .
المطلب الرابع :
القطاع العام والضرورة التنموية : إن وجود قطاع عام كبير و مؤثر أمر ضروري للسيطرة على الموارد الاقتصادية الوطنية ,و امتلاك هذه السيطرة مطلب أساسي و ضرورة موضوعية في أية دولة سعى إلى القضاء على الروابط التبعية و إرساء قواعد الاستغلال الإقتصادي .
إن قيام قطاع عام يعتبر شرطا لضمان درجة معقولة من السيطرة على توجيهات التنمية و ذالك في ظل ندرة الوسائل البديلة للتأثير الفعال في مجريات الأمور الاقتصادية وضعف تأثير السياسات النقدية والمالية في بلدان العالم الثالث بوجه خاص ,و لكن الاستقلال الإقتصادي لن يتحقق بمجرد قيام القطاع العام ,ويبقى الأمر معلقا على نوعية السياسات العامة التي تحكم هذا القطاع و هذا الأمر يتوقف على طبيعة السلطة السياسية أي على ,من يحكم من ؟ ولمصلحة من؟ فقد يستخدم القطاع العام كأداة لتكريس التبعية إذا كانت السلطة السياسية بيد فئة قليلة ترى مصلحتها في الارتباط بالدول الرأسمالية الكبرى و السوق المالية العالمية وقد يستخدم القطاع العام كأداة للتحرر من التبعية إذا كانت السلطة السياسية تمثل تمثيلا صادقا ,الأغلبية الفقيرة و التي لا مصلحة لها في استمرار روابط التبعية ومن المرجح أنه في ظل غياب عام قوي و مؤثر ,و ترك الأمور للمبادرة الخاصة و القطاع الخاص تتجه التنمية للاعتماد على الخارج و تنمية الاقتصاد نحو الاندماج في السوق الرأسمالية العالمية ,الأمور التي تكرس علاقات التنمية بينما تقتضي مبادئ التنمية السليمة اقتلاعها من جذورها.
و السؤال هل كان القطاع العام خيارا ؟ نعم إن القطاع العام كان خيار تنموي تمت تحت إنجازات هامة لم تكن لتتحقق من دونه ,وفي مجتمعات مختلفة كمجتمعاتنا ليس هناك خيار إلى أن تقوم الدولة بدورها ,إذ لم يكن لدى الكثير من الدول النامية ففي ذالك الوقت بديل عن الاعتماد على المؤسسات العامة إذ لم يكن القطاع الخاص مقبولا سياسيا و إن رأس المال تميل بوجه عام إلى الانغماس في الاقتصاد (الهش) أي الساعي إلى الربح السريع أيا كان مصدره ذلك إن لم ينغمس في الاقتصاد الأسود .
إن الحاجة إلى قطاع عام في اقتصاد متخلف هو أمر بديهي ,فلا يمكن تحقيق أهداف مثل : النمو الاقتصادي ,تحريك المدخرات الوطنية ,توزيع الاستثمارات القطاعية ,خلق فرص عمل لتوظيف القوى العاملة المتنامية ,و التخطيط لاستعمالها , التوزيع الاقتصادي الدولي , كل هذا لا يمكن تحقيقه من دون أن تلعب الدولة دورا كبيرا في الاقتصاد عبر القطاع العام ,و كما نعرف فإن مالك هذه المدخرات يفضلون استثمارها في الأراضي و مدخرات المضاربة ,و العقارات السكنية ,و تجارة السلع سريعة الدوران ,إن التناقضات واضحة بين الحاجة الملحة إلى تكوين رأس المال و بين الخيارات الفردية ,و بمقدور سلطة الدولة وحدها تغيير وجهة استثمار المدخرات الوطنية .
المبحث الثاني : التوجهات الاقتصادية
المطلب الأول :
مرحلة التسيير الذاتي (1962-1965) : يشكل التسيير الذاتي الصناعي و الفلاحي تجربة مفروضة من الواقع و الظروف السائدة بعد الاستقلال مباشرة ,حيث قام المعمرون الأوروبيون بمغادرة التراب الوطني و تركوا وراءهم المزارع و المؤسسات التي كانوا يديرونها ,وذالك بعد تخريبها وتعطيل الآلات وحرق الوثائق و المستندات و مما أدى إلى وضع غير منتظر ,و أدى إلى تعطل دورة الإنتاج و أمام هذا الوضع لم يبقى العمال و الفلاحون الجزائريون مكتوفي الأيادي ,فقد تحركوا بصورة عفوية و تلقائية و واصلوا عملية الإنتاج و التسيير المؤسسات والمزارع رغم كل الصعوبات . وقد أدى هذا المسعى إلى تجسيد نمط جديد للإدارة يسمى " التسيير الذاتي " والذي تمت تزكيته من طرف السلطة السياسية آنذاك ,حيث أصدرت عدت قرارات تحدد الصيغة التنظيمية للمزارع و المؤسسات المسيرة ذاتيا و التي تتمثل في :
قرار 23 نوفمبر 1962 المتعلق بتشكيل لجان التسيير الذاتي داخل المؤسسات الصناعية و المنجمية و الحرفية
قرار 18 مارس 1963 الذي ينص على تأسيس الهيئات التالية: مجلس العمال ,المجلس العام العمالي ,لجنة التسيير ,المدير
إن ولادة هذا النمط من التسيير جاء بفعل عدة أسباب منها الذهاب الجماعي و المكثف لأرباب المزارع و المؤسسات الإنتاجية الأوروبيين .وكذلك للوقوف في وجه أطماع البرجوازية الجزائرية التي نمت أثناء الثورة و كانت تتطلع إلى الإستلاء على الممتلكات بعد خروج المعمرين لتحل مكانهم ,غير أن يقضة العمال و الخلافات التي سادت داخل الحركة الوطنية حالت دون ذلك ,الأمر الذي دفع بالسلطة آنذاك إلي تقنين
التسيير الذاتي تحت ضغط المعارضة من جهة , ولكسب ثقة الشعب من جهة أخرى . وبهذا فإن ظهور التسيير الذاتي كان نتيجة منطقية للظروف الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال .
أما عن تسيير المؤسسات في إطار نظام التسيير الذاتي فقد كان يتم بواسطة لجنة التسيير الذاتي التي يقوم العمال بانتخابها , ثم يقوم أعضاء هذه اللجنة باختيار رئيس لها من بينهم بطريقة ديمقراطية ,و إلى جانب الرئيس يوجد مدير يعين من طرف الوزارة الوصية و هذا ما يشكل تناقض جوهري في مضمون التسيير الذاتي " مما يدل على تردد في تطبيق المركزية و اللامركزية في عملية تسيير المؤسسات الاقتصادية وذلك لوجود حالة من الازدواجية مكونة من مدير معين و هيئة منتخبة ,و كون المدير هو أقوى من الهيئة المنتخبة الأمر الذي يدل على تكريس المركزية و التعقيدات البيروقراطية وعدم تجسيد المشاركة الفعلية للعمال في التسيير و اتخاذ القرارات .
ولقد استغل المديرون الأمية المنتشرة في أوساط العمال لبسط نفوذهم ," وممارسة مركزية اتخاذ القرارات و عرقلة نشاط العمال بل و تأخير حتى رواتبهم الشهرية مما أدى إلى سوء الاتصال التنظيمي بين العمال و الإدارة وترتب عنه شل نشاط مجالس العمال وقد أدت هذه الإجراءات إلى إثارة العديد من الصراعات داخل المؤسسة المسيرة ذاتيا .ويمكن عرض أسباب ذلك فيما يلي :
شعور العمال بالغبن نتيجة عدم تحسن أوضاعهم كما كانوا يتوقعون و يرجون منذ أمد بعيد
سوء الاتصال التنظيمي بين العمال والإداريين نتيجة تكوين حواجز نفسية (اتجاهات سلبية ) واحتكار السلطة والمعلومات من طرف الإداريين
بيروقراطية الهيئات الوصية وبطئ الإجراءات الإدارية و اتخاذ القرارات
إقصاء العمال من المشاركة في صنع القرارات والتسيير
فقدان الثقة في مبادئ التسيير الذاتي
انخفاض الروح المعنوية وضعف الأداء
عدم كفاية الأجور و ضعف القدرة الشرائية للعمال ,وسوء العلاقة بين العمال و المسييرين
إن أسباب الصراعات العمالية في هذه المرحلة تتعلق بطريقة التسيير وتنظيم المؤسسة ,ونقصد بذلك بروز فئة من المسيرين و ذوي التخصصات استأثرت ببعض المزايا المادية و الإدارية و تحولها إلى فئة بيروقراطية تحتكر السلطات و اتخاذ القرارات , وذلك ما يفسر استمرار الصراع في إطار هذا النظام (التسيير الذاتي ),ولا يمكن أن نتوقف في بحث أسباب الصراع في إطار المؤسسة المسيرة ذاتيا , بل يجب أن نحلل المحيط الإقتصادي و الاجتماعي الذي يحيط بها و يؤثر على تشكيل مواقف العمال بداخلها , فقد أصيب الاقتصاد الوطني بالركود و الجمود ,"حيث انخفض الإنتاج بالقيمة الحقيقية بحوالي 35% كما انخفض معدل الواردات لمعدل 40% بالأسعار الجارية , بالإضافة إلى احتكار الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاعات الحساسة و الهامة , وعلى رأسها قطاع المحروقات ( وذلك بموجب اتفاقية أيفيان ) ,وضعف القطاع المسير ذاتيا بسبب منافسة رأس المال الأجنبي له ,و احتوائه على مؤسسات ذات نشاطات هامشية ,مما جعله لا يشارك بصفة فعالة في تنمية الاقتصاد الوطني ,هذا بالإضافة إلى الصعوبات التي كانت تواجهه من حيث التموين و التسويق وقلة رؤوس الأموال .
إن هذه الوضعية المتدهورة التي عاشها الاقتصاد الوطني أثرت على الوضع الاجتماعي للبلاد ,حيث ارتفعت نسبة البطالة نتيجة غياب الاستثمارات ,وتدهور المستوى المعيشي للسكان نتيجة قلة دخوله ,ففي جانفي 1966 صدرت وثيقة تقييم
الدخول جاء فيها أنه " إذا قمنا بفحص الوضع الاجتماعي من زاوية توزيع الدخول و مصادرها ليتبين لنا ضعف نسبة الدخول الموزعة من قبل مؤسسات القطاع المنتج ,؟هذا رغم التضخم المصطنع في مراكز العمل بالنسبة لجميع القطاعات " مما يدل على أن مدا خيل العمال كانت ضعيفة ,الأمر الذي دفعهم إلى خوض إضرابات في سبيل زيادتها .
إذا في هذه المرحلة عرفت المؤسسة العامة الجزائرية أسلوبا من التنظيم و الإدارة يسمى التسيير الذاتي ,وقد أدى هذا الأسلوب إلى بروز العديد من الصراعات بين العمال و الإدارة .
المطلب الثاني :
الشركة الوطنية (1965-1971) : إن المساعي الرامية إلى بناء الاشتراكية في الجزائر قد توقفت بعد الاستقلال بسبب نوع السلطة التي تأسست آن ذاك هذه السلطة التي كانت تسعى للحصول على قاعدة شعبية ,و اعتمادها على ديماغوجية محضة عن طريق الخطابات الشعبية ( خطابات و شعارات دون أعمال ونتائج ).
مما أثر سلبا على تطور البلاد وعلى تحقيق التنمية الوطنية ،لقد تركت هذه السلطة القطاعات الحيوية والهامة التي يتوقف عليها بناء اقتصاد وطني حقيقي ،والتي لا يمكن المضي في طريق التنمية بدونها لرأس المال الأجنبي ،و احتفظت بقطاعات هامشية لا تأثير لها في بناء الاقتصاد الوطني ،هذا بالإضافة إلى عدم اهتمامها بالطبقة العاملة وََظروفها المتدهورة من جراء الاستعمار و الاستغلال الأجنبي،و أستمر الوضع على هذا الحال إلى أن جاء التصحيح الثوري في 19جوان 1965 الذي يعد بمثابة نقطة انعطاف وتحول جذري في كيان المجتمع الجزائري من خلال الانطلاق في طريق التنمية وبناء الاشتراكية ،ذلك أن بناء الاشتراكية لا يتم بإمكانيات ضعيفة .كما لا يمكن أن يقوم به شخص واحد ،بل إن ذلك لا يتأتى الأمن خلال تجنيد الطاقات الحية في البلاد لا سيما العمال واستغلال جميع الثروات الوطنية بصورة عقلانية .
لقد كان التصحيح الثوري مضيئا في بدايته على الجانب السياسي،ثم أعقبه تصحيح اقتصادي واجتماعي بهدف تحقيق حاجات الشعب بمختلف فئاته ،وقد تميزت هذه المرحلة بصدور العديد من القوانين منها: الأمر رقم 66-183 المؤرخ في يونيو 1966 الخاص بتعويض إصابات العمل والأمراض المهنية ،وتلاه صدور نصوص تطبيقية في 27 ديسمبر 1966 ،وفي 19 مارس1966 وذلك ما يعبر عن السعي لإيجاد منظومة قانونية جزائرية تنظم مجال العمل وغيرها من المجالات الأخرى والحد من القوانين الفرنسية التي كانت سارية المفعول .
لقد كان الهدف في هذه المرحلة يتمثل في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والحد من نفوذ الرأسمال الأجنبي وبناء اقتصاد وطني قوي ,و لتحقيق ذلك شرعت السلطة انطلاقا من سنة 1966 في إجراء تأميمات سريعة ومكثفة للمناجم والبنوك والتامين والعديد من الصناعات الأخرى ,و لتسيير هذه الخيارات المؤممة عملت الدولة على إنشاء العديد من الشركات الوطنية فبرزت شركات متنوعة منها : الشركة الوطنية للمناجم " سونارام " سنة 1966 و " الشركة الوطنية لمواد البناء " سنة 1967 والشركة الوطنية للعربات سوناكوم 1967 و" الشركة الوطنية للمصبرات " سنة 1966وغيرها .
إن إنشاء الشركة الوطنية بات مؤكدا في ميثاق الجزائر الذي يعتبرها بمثابة" الأداة التي يمكن بواسطتها القيام بالنشاطات الاقتصادية الرئيسية إذا كانت السلطة تقوم " بالحد من مجالات التراكم بالنسبة للبرجوازية الخاصة من جهة ،وتضع تدريجيا القطاعات المسيرة ذاتيا تحت سيطرتها من جهة ثانية وهذا ما يدل على أن نظام التسيير الذاتي لا يزال قائما في هذه المرحلة ، غير أن الدولة وبعد الشروع في المخطط الثلاثي الأول (1967- 1969) عملت على وضع العديد من المؤسسات المسيرة ذاتيا كما هو موضح في الجدول التالي:
جدول رقم 1 تناقص عدد العمال في القطاع الصناعي المسير ذاتيا
السنة 1969 1970 1971 1972 1973
عدد العمال 18492 15927 12202 10763 9903
النسبة المئوية للاستخدام الصناعي 12.8 10.2 7.1 5.8 4.7
إن الإقبال الكبير على الشركة الوطنية يرجع إلى ارتفاع نسبة البطالة ,وإلى حجمها العملاق وقدرتها على استيعاب أعداد هائلة من العمال , ناهيك عن الحوافز المغرية والرواتب الشهرية المرتفعة التي تقدمها والتي تفوق الرواتب المقدمة في كل من قطاع الوظيف العمومي والقطاع الخاص والمسير ذاتيا , مما أدى إلى زيادة الإقبال عليها و انخفاض عدد العمال في القطاعات الأخرى لاسيما القطاع المسير ذاتيا , الأمر الذي يدل على بداية تراجع هذا القطاع لقد جاء إنشاء الشركة الوطنية لتحقيق العديد من الأهداف من بينها :
تلبية حاجات الاستهلاك الوطني .
إيجاد سوق واسعة لتصريف منتجات الصناعة .
إيجاد أقصى ما يمكن من الوظائف لامتصاص البطالة .
ونشير هنا إلى أن الشركة الوطنية تتكون من عدة وحدات مترامية عبر التراب الوطني أي أنها نشأت بفعل تجميع هذه الوحدات , والتي تختلف من حيث مستوياتها التكنولوجية بالإضافة إلى تنوع وضعيتها التجارية مما أدى إلى صعوبة إقامة هياكل تنظيمية على مستوى كل الشركات وذلك ما جعل تسير هذه الوحدات من ابرز مهام
الشركات الوطنية التي أصبحت مسئولة عن تسييرها وتحقيق أهدافها بالتماشي مع أهداف التنمية الوطنية .
أما بخصوص تسير هذه الشركات فإن الأمر يتمثل في وجود مدير عام يتم تعيينه بموجب قرار وزاري , يتولى تسيير الشركة تحت سلطة الوزارة الوصية ويتمتع بسلطات واسعة ,وإلى جانبه توجد هيئة استشارية تساعده في تسيير شؤون الشركة تتألف من ممثلين عن بعض الوزارات والحزب .
وبذلك فإن الدولة هي الممثلة وحدها في هذه الهيئة التي ينحصر دورها في ممارسة اختصاصات استشارية محضة, و بذلك ما يقوي من سلطة المدير وسيطرته على التسيير واتخاذ القرارات ويجعله الفرد الذي يضع سياسة المؤسسة وحده باعتباره الرجل الوحيد المسير للمؤسسة في هذه المرحلة , غير أن النقطة الهامة التي يمكن ملاحظتها هنا هي عدم إقامة أي تنظيم لمشاركة العمال في عملية اتخاذ القرارات بهذه المؤسسات في هذه المرحلة , مما قد يؤدي إلى فتح المجال للصراعات والمشاكل حول هذه القضية أي مشاركة العمال في التسيير .
بالإضافة إلى ما سبق فان أهداف ووظائف الشركات الوطنية كانت تحدد من طرف الجهاز المركزي والسلطة الوصية , وذلك في إطار الاستراتيجية الوطنية العامة التي تتمثل في تلبية مطالب العمال الاجتماعية وتحقيق الاستقرار السياسي للبلاد, وذلك ما جعل القرارات تتخذ من خارج هذه الشركات أي من طرف الإدارات المركزية , وفي ذلك تكريس للمركزية, وما يرتبط بها من تعقيبات بيروقراطية وجمود أو بطء في اتخاذ القرارات .
إن الحجم العملاق للشركات الوطنية والسلطات المطلقة التي منحت للمسيرين بها أدى إلى بروز المشاكل البيروقراطية المرتبطة بسوء الاتصال العمودي , وبحجم السلطة التي أكسبتها بعض المسيرين الإداريين ,وذلك ما أدى إلى إثارة العديد من
الصراعات بداخلها بسبب سوء المعاملة بين الإدارة والعمال والمشرفين , وبسبب تدهور ظروف العمل والمطالبة برفع الأجور وتحسين الخدمات وغيرها ,خاصة بعد غياب المشاركة العمالية وإلحاق النقابة بالحزب خلال المؤتمر الثالث للحزب (حزب جبهة التحرير الوطني ) , الأمر الذي جعلها تقوم بتعبئة العمال لخدمة مشاريع الدولة أكثر من قيامها بالاحتجاج والمطالبة والدفاع عن مصالحهم ,أي أنها تحولت إلى وسيلة لتدعيم سياسة الدولة ولتحقيق مشاريعها , وقد شهدت هذه المرحلة عدة اضطرا بات , إذ جاء في التقرير المقدم لمؤتمر الاتحاد النقابي المحلي لمنطقة الجزائر الوسطى في جوان 1966 إن هناك 3377 عامل في حالة اضطراب و 10428 ساعة عمل ضائعة من جراء الأضرار خلال الثلاثي الأول من سنة 1966 .
ويهدف التقليل من الاضطرابات والقضاء عليها فقد عملت السلطة على فرض " حصار إعلامي على كل المعلومات الواردة بشأنها " وبعد ذلك جاءت المادة (171) من قانون العقوبات تمنع اللجوء إلى الإضراب ,والتي تضمنت العقوبات الواردة بشان المخالفين لذلك ولكل من يحاول وسائل للضغط لتحقيق مطالبه أو المساس بحرية العمال غير أن ذلك لم يمنع من ظهور هذه الممارسات بسبب ما سبق ذكره من أسباب .
وهكذا نلاحظ عدم الاعتراف بحق الإضراب في هذه المرحلة ويعود إلى كون هذه المرحلة تشكل عقبة التحول نحو الاشتراكية ومشاركة العمال , وبالتالي البحث عن إزالة التنافس بين مصالح الدولة ومصالح العمال وإزالة التناقضات الموجودة في علاقات العمل ولتحقيق ذلك أصدرت السلطة ميثاق التسيير الاشتراكي للمؤسسات .
إذن تميزت هذه المرحلة بإنشاء الشركة الوطنية وهو أسلوب جديد لتنظيم وإدارة المؤسسات العامة بالجزائر , غير أن هذا الأسلوب من التنظيم والإدارة قد أدى إلى حدوث مشاكل وإضطرابات , الأمر الذي دفع بالسلطات إلى إصدار ميثاق التسيير الاشتراكي للمؤسسات .
المطلب الثالث :
مرحلة التسيير الاشتراكي للمؤسسات (1971ـ 1980) :لقد بينت الجزائر الاشتراكية كوسيلة لتحقيق التنمية الوطنية وتحسين ظروف الشعب الجزائري الذي عانى الكثير من ويلات الاستعمار الفرنسي , والقضاء على التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع , وذلك من خلال القضاء على النظام الرأسمالي القائم على الاستغلال والذي كان سائدا إبان الاستعمار .
وقد تحددت معالم هذا الاتجاه قبل الاستقلال , من خلال مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956, وبرنامج طرابلس في جوان 1962 , وفي ميثاق الجزائر بعد الاستقلال سنة 1964 وتتركز الاشتراكية على نظام الإنتاج الاشتراكي القائم على التعاون بين جميع المنتجين ,وعلى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ونبذ الاستغلال , وتهدف الاشتراكية إلى تذويب الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع , والقضاء على التعارض بين العمال والرأسمالي وتحويلها إلى خدمة المجتمع وتلبية حاجاته , وهي تسعى بشكل رئيسي إلى النهوض بالطبقة العاملة وتحسين ظروفها .
ويتميز النظام الاشتراكي بمركزية التخطيط الشامل واتخاذ القرارات , وذلك للقضاء على الفوضى الاقتصادية وغيرها , كما يتميز أيضا بوجود هيئة مركزية تتمثل في الحزب الواحد كحزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر سابقا , والذي يقوم بإعداد وتوجيه سياسة البلاد ومراقبة تطبيقها , لأنه دون حزب طلائعي حقيقي يكون المعبر الوفي عن مطامح الشعب العميقة , والحارس اليقظ على اختياراتنا ستتعرض الدولة لمرض الشلل وعدم الفعالية والبيروقراطية .
وبهذا فإن الحزب هو الذي يتولى رسم سياسة البلاد وممارسة الرقابة والإمساك بزمام الأمور .
وقد ظهر التطبيق الفعلي للنظام الاشتراكي في الجزائر في 16 نوفمبر 1971 , وذلك بموجب صدور وثيقة ,وذلك بموجب صدور وثيقة رسمية لتسيير المؤسسات العمومية بصورة جماعية وفقا للمنهج الاشتراكية ,وكان القصد من ورائه تطبيق المباديء الاشتراكية في تسيير المؤسسات العامة,خاصة مبدأ اشتراك العمال و التسيير ,وذلك لهدف تجاوز علاقات العمل السلعية القائمة على الأجر فقد أصبح العامل منتجا ومسيرا في نفس القوت.
لقد جاء هذا النظام لتجريب الديمقراطية في عالم الشغل واشتراك العمال في التسيير واتخاذ القرارات وممارسة الرقابة ,وتحسين ظروفهم ورفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتقني ,وتحسين ظروف حياة الجماهير الشعبية عامة ,ورفع مستوى الإنتاج الوطني وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة و الاستقلال الاقتصادي ,وقد صاحب صدور هذا القانون اتخاذ عدة قرارات مست الحياة الاجتماعية و الاقتصادية للبلاد ,ونعني بذلك قرار التخطيط الإجباري الذي يعتبر كخطوة هامة ,"لمساعدة الدولة ليس فقط لضمان مراقبة تسيير النشاطات الاقتصادية فحسب , بل ولتتدخل فعليا في كل وظائف الشركات " وقرار تأميم المحروقات الصادر يوم 24 نوفمبر 1971 , ومجموعة النصوص الخاصة بالثروة الزراعية في 8 نوفمبر 1971 , وكان كل ذلك في إطار المخطط الرباعي الأول (1970-1973) الذي كان منصبا على تدعيم الاستثمار في القطاعين الصناعي والزراعي .
إن تطبيق نظام التسيير الاشتراكي يتم في إطار المؤسسة الاشتراكية , التي هي " ملك للدولة تابع للقطاع العام تتولى الدولة الاستثمار فيها ومشاركة العمال في إدارتها وتسييرها وهي تسير حسب مبادىء التسيير الاشتراكي , ويتكون رأس مالها من أموال عامة , وتتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي , وتتضمن وحدة أو عدة وحدات , ويعتبر عمالها منتجون ومسيرون في إن واحد .
وترجع تنمية المؤسسة الاشتراكية إلى سببين جوهريين يتمثل أحدهما في أنها أداة تنفيذ للمشروعات التي اقتضتها السياسة الاشتراكية ويتمثل السبب الثاني في أنها تسير طبقا لمبادىء التسيير المحدد في الميثاق الاشتراكي للمؤسسات .
ولعل من ابرز هذه المباديء مشاركة العمال في تسييرها وفقا للقوانين الصادرة في هذا الشأن ,وبهذا فان المؤسسة الاشتراكية تعد بمثابة الوسيلة الأساسية لتحقيق أهداف التنمية الوطنية على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ,حيث تقوم بوضع الهياكل العامة لها ولوحداتها وتحديد أهدافها في إطار مخططات سنوية تتماشى مع المخططات الوطنية والعمل على التنسيق بين نشاطات هذه الوحدات في ميدان الإنتاج والتسويق و في الجانب المالي و الاجتماعي كما تقوم بوضع جدول للمرتبات داخل المؤسسة وذلك بالتماشي مع السياسة الوطنية للأجور .
إن أهمية المؤسسة الاشتراكية تبرز من خلال وظائفها وأهميتها في إدارة دواليب الاقتصاد الوطني, ومن ناحية نشاطها ومواردها المالية ,وقد كانت الأرباح التي تحققها هذه المؤسسات توزع على العمال والدولة والمؤسسة حسب حصص معينة ,وتخضع المؤسسة الاشتراكية للرقابة التي تمارسها السلطة المركزية عن طريق الوصاية ,وذلك ضمان الحفاظ على وحدة الدولة من بعض المخاطر وخروج هذه الأشخاص عنها حيث نصت الأوامر المتعلقة بالتسيير الاشتراكي على إن المؤسسة الاشتراكية توضع تحت وصاية الوزير أو الوالي أو رئيس المجلس الشعبي البلدي .
وتعمل الهيئات الوصية على توجيه المؤسسة وممارسة الرقابة عليها وتوفير الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها ,كما تقوم بتعيين المدير العام للمؤسسة وسلطة الوصاية والإدارات الأخرى التابعة للدولة , كما تقوم أيضا باستلام التقارير وتوضيح الأهداف
التي يتعين على المؤسسة تحقيقها في إطار المخططات الوطنية الشاملة , كما تسهر على ضرورة تماشي نشاط المؤسسة مع السياسة العامة للدولة .
لقد جاء التسيير الاشتراكي لبعث الديمقراطية والمشاركة الفعلية للعمال في تسيير وإدارة المؤسسة , وذلك عن طريق ممثلين ينتخبهم العمال في جمعية عامة وفي اللجان الدائمة وفي مجلس الإدارة , وبذلك فان تسيير المؤسسة الاشتراكية يتميز بلامركزية الإدارة ومشاركة العمال حيث ظهرت عدة هيئات تتقاسم تسيير المؤسسة وإدارتها وهي : مجلس العمال , مجلس المديرية , المدير العام للمؤسسة , اللجان الدائمة .
1. مجلس العمال : يقوم العمال بانتخاب مجلس يمثلهم وينوب عنهم يسمى مجلس العمال , ويتمتع هذا الأخير بحرية التصرف في سائر السلطات لمراقبة سير المؤسسة وتنفيذ البرامج وتسيير المؤسسة والمخططات الرامية لتطويرها في إطار المخططات الوطنية الشاملة , وفي الاستثمارات ومصاريف المؤسسة وإيراداتها والتموين والتسويق والإنتاج كما يشارك في إعداد سياسة الموظفين والتكوين المهني , وسيستشار في أي إصلاح يتعلق بوضعية العمال وفي كل التعديلات التي يتم إجرائها على هياكل المؤسسة .
2. مجلس المديرية : يحدث على مستوى كل مؤسسة مجلس مديرية يترأسه المدير العام ويتكون من عدد معين من النواب المباشرين لهذا المدير ومن ممثل أو ممثلين ينتخبها مجلس النواب ويتراوح عدد أعضائه بين ( 9 -11) عضو كحد أقصى وأدنى , ويعمل هذا المجلس على الحفاظ على تسيير المؤسسة , في القضايا المتعلقة ببرامج التسويق والتموين , والإنتاج وتوسيع نشاطات المؤسسة , وبرامج الاستثمار , والميزانية وحسابات الخسائر والأرباح , وإجراء التقرير المالي والاقتصادي لسنة العمل , وقانون المستخدمين وجدول الأجور وتعيين ممثلين للمديرية في اللجان الدائمة للمؤسسة ,بالإضافة إلى تسوية الخلافات.
3. المدير العام للمؤسسة : يعين المدير العام للمؤسسة بموجب قرار يصدر عن الهيئة الوصية , و تنتهي مهامه بنفس الشكل و يتولى المدير العام تسيير المؤسسة تحت سلطة الوزير الوصي ,حيث يكلف بالتسيير العام للمؤسسة في إطار اختصاصاته الموكلة لمجلس العمال .
4. اللجان الدائمة : لقد جاء إنشاء اللجان الدائمة من أجل تحقيق مشاركة العمال في تسيير مختلف نشاطات المؤسسة بشكل دائم و ليس دوري , وتتكون هذه اللجان من أعضاء يعينهم مجلس العمال من بين أعضائه و هذه اللجان هي خمسة:
أ- لجنة الشؤون الاقتصادية و لمالية
ب- لجنة الشؤون الاجتماعية و الثقافية
ت- جنة التكوين و المستخدمين
ث- لجنة التأديب
ج- لجنة حفظ الصحة والأمن
وهكذا نستنتج بأن التسيير الاشتراكي جاء بنوع من التنظيم الرسمي للمؤسسة و ذلك بهدف تغيير نمط العلاقات الإنسانية السائدة فيها والقضاء على سيطرة البيروقراطيين في تسيير المؤسسة ,غير أن ذلك باء بالفشل بسبب طغيان المعايير غير الرسمية وسيادة النزعة التسلطية لدى المسيرين ,بالإضافة إلى العراقيل التي سبق ذكرها ونتساءل هنا عما إذا كان العمال في تلك المرحلة في مستوى هذا التنظيم ؟ وهل كانوا يتمتعون بالمؤهلات العلمية والمعرفية الضرورية للمشاركة في تسيير المؤسسات ؟
إن المتأمل لتلك المرحلة يجد بأن الأمية كانت منتشرة بصورة كبيرة في أوساط العمال ,هما حالة دون مشاركتهم بصورة فعلية في التسيير و اتخاذ القرارات ,الأمر الذي فتح المجال أمام البيروقراطيين ليسط نفوذهم و سلطتهم ,وتحقيق مصالحهم الشخصية ,و قد
جاء تعبير حيث يقول " فسياسة الاستثمارات شملت كل مناحي الحياة بما فيها الصناعة و الفلاحة والتربية و التعليم وعمت كل الميادين الاجتماعية, لكن بالرغم من كل المظاهر الإيجابية لهذه السياسة فإنها ساعدت بكيفية أو بأخرى على بروز العناصر الطفيلية في المجتمع , و هي تلك العناصر التي تجري وراء الربح الرخيص و الكسب الهين الذي يأتي بالنصب و التحايل ,و هذا واقع لابد أن يتفهمه العمال ولابد من الحذر كل الحذر من إن ينجروا وراء هؤلاء العناصر .
إذن عرفت المؤسسة العامة خلال هذه المرحلة نوعا جديدا من التنظيم و الإدارة يسمى بالتسيير الاشتراكي ,إلا أنه تعرض للعديد من العوائق و المشاكل من أبرزها الصراعات و الخلافات بين العمال و الإداريين ,وزيادة العبء المالي للمؤسسة العامة على خزينة الدولة ,و عدم تمكنها من الاعتماد على نفسها , الأمر الذي دفع بالدولة في التفكير في أسلوب جديد لإدارة هذه المؤسسات.
المبحث الثاني : إعادة الهيكلة والاستقلالية
المطلب الأول : إعادة الهيكلة (1980-1988) :ظهرت إعادة الهيكلة بعد تقييم المسار التنموي الذي خاضته الجزائر خلال العشرية السابقة ,حيث ظهرت عدة مشاكل و نقائص منها :
1. مركزية بحتة جعلت الجهاز المركزي للتخطيط يتدخل بصورة مباشرة لاتخاذ القرارات في مكان المسييرين الحقيقيين للمؤسسة
2. تمركز الاستثمارات في قطاع الإنتاج الصناعي
3. تزايد في حجم المديونية الخارجية
4. التراجع في ميدان النمو ,و كذلك كبر حجم المؤسسات الوطنية و صعوبة تسييرها و ارتفاع عدد المستخدمين فيها حيث تشير الإحصائيات إلى أنه في سنة 1980
كانت هناك 20شركة وطنية تشغل حوالي 365000 عامل ,ومن بينها شركة " سونا طراك " التي تشغل لوحدها حوالي 100000 عامل
هذا بالإضافة إلى عجز هذه المؤسسات و ضعف طاقاتها الإنتاجية و تدهور مردو ديتها ,و عدم قدرتها على تحقيق الأهداف المسطرة لها ,و كذلك سوء تسييرها بفعل سيطرة البيروقراطية و اتساع سلطاتهم نتيجة النمو السريع لهذه المؤسسات .
وتحت هذه الظروف ظهرت الضرورة للتخلي عن نضام التسيير الاشتراكي و البحث عن أسلوب جديد للخروج من هذا المأزق و النهوض بالاقتصاد الوطني و تحسين تسيير المؤسسات الوطنية, و ذلك عن طريق إعادة الهيكلة من خلال العمل على التقليص من حجم هذه المؤسسات ليسهل سيرها ,و كانت أول خطوة في هذا المسعى في نوفمبر 1979 عندما عين حزب جبهة التحرير الوطني لجنة لدراسة المواضيع العديدة المرتبطة بإعادة هيكلة المؤسسات الوطنية ,و التخفيف من مركزية التخطيط و التسيير وفي جوان
من نفس السنة قامت وزارة الطاقة بالتحضير لإعادة هيكلة الشركة الوطنية " سونا طراك ", و في 06 أكتوبر 1980 صدر النص القانوني الخاص بعملية إعادة الهيكلة للمؤسسات العمومية .
غير أن التطبيق الفعلي لهذا المبدأ (إعادة الهيكلة ) جاء بموجب النص التطبيقي المؤرخ في 27 فيفري 1980 .
لقد جاءت عملية إعادة الهيكلة من أجل رفع الإنتاج وتحسين التسيير , وذلك من خلال :
1- التقليص من المركزية البيروقراطية التي أصبحت تعرقل نشاطات المؤسسة وتقتل روح المبادرة والإبداع
2- تحميل مسيري هذه المؤسسات النتائج التي تحصل عليها مؤسساتهم
3- التخلص من نموذج تنمية مركز لمرحلة السبعينات , الذي يكلف الدولة مبالغ ضخمة خاصة بالعملة الصعبة وفي وقت عرفت إيراداتها تدهورا كبيرا
وبذلك فإن إعادة الهيكلة تقتضي انتقالا نوعيا نحو نمط جديد يختلف عن النموذج الذي كان في السابق , وذلك مما أدى بالدولة إلى الشروع في إصلاحات اقتصادية ابتداء من 1980 بالإضافة إلى ذلك فإن إعادة الهيكلة تهدف إلى تقليص حجم المؤسسات الوطنية العملاقة حتى يسهل تسييرها ومراقبتها .
وقد تمت عملية إعادة الهيكلة على مرحلتين :
1- المرحلة الأولى : تسمى إعادة الهيكلة العضوية : وتشكل القاعدة الأساسية في تطبيق عملية إعادة الهيكلة , وذلك من خلال تجزئة أو تقسيم المؤسسات الكبيرة وفقا لنشاطاتها إلى عدة مؤسسات صغيرة , حيث تنهض كل واحدة منها بجزء من النشاط العام الذي كانت تقوم المؤسسة الأم سابقا , وقد أعطيت الأولوية في هذا الشأن للمؤسسات التي تنتمي إلى القطاع الإنتاجي , والتي تحتوي على قوى بشرية هائلة ,
ونجد في مقدمة المؤسسات التي طبقت عليها هذه العملية مؤسسة "سونا طراك " التي قسمت إلى ثلاثة عشر مؤسسة , المؤسسة الوطنية "سوناكم " التي قسمت إلى إحدى عشر مؤسسة
2- المرحلة الثانية : تسمى إعادة الهيكلة العضوية , وتتمثل في منح استقلالية مالية للمؤسسة , وبذلك ترفع العراقيل المالية المتمثلة في الديون والخسائر المالية .
ولتحقيق الرقابة المالية على المؤسسات فقد بادرت الدولة إلى إدخال نظام لمراقبة النشاط المالي للمؤسسات الصناعية ,وذلك بهدف تحسين مردوديتها .
لقد أفضت عملية إعادة الهيكلة إلى إعداد برنامج خاص بالمؤسسة للتحكم في التسيير والإنتاج بعد تصغير حجمها ,وإجبارها بالنتيجة وفق الأهداف المسطرة في المخطط الوطني وذلك ما يدل على نوع من المركزية , غير أننا نرى بأن تحقيق المردودية
لا يتوقف فقط على مجرد تحسين الوضع المالي للمؤسسة وتصغير حجمها وإلا كيف نفسر وجود شركات عملاقة في الغرب مثل الشركات المتعددة الجنسيات التي تفوق مواردها موارد دولة كاملة , فالمشكلة هنا مرتبطة بنوعية العلاقات الإنسانية السائدة في المؤسسة الجزائرية وفي مدى وضوح الأهداف العامة المراد تحقيقها , ومدى انسجامها مع الأهداف الخاصة بالعاملين بها , وهذا ما تعانيه المؤسسة الجزائرية التي كانت " تفتقر إلى الإطارات المديرية في التسيير ,..." أي أن نقطة الضعف في التسيير تكمن في عدم تأهل الكثير من المسيرين لدور الإشراف وتسيير الموارد البشرية ) , وللتغلب على هذه المشاكل فإن ذلك يتوقف على مدى فعالية نظام الاتصال الرسمي ونشاط قنواته على مختلف مستويات التنظيم خاصة الاتجاه الصاعد أي من القاعدة إلى القمة والذي يتمخض عنه مشاركة القاعدة العملية في التسيير واتخاذ القرارات ,وهذا لن يتحقق إلا من خلال وجود إطارات ومسيرين قادرين على توجيه العمال ,وخلق روح التعاون بين القمة والقاعدة , وتوجيه جهودهم وتنسيقها في سبيل تحقيق أهداف المؤسسة .
المطلب الثاني : استقلالية المؤسسات ( 1988-1995)
إن عملية إعادة الهيكلة التي مست المؤسسات العمومية في مطلع الثمانينات لم تأتي بثمارها فيما يتعلق برفع مردو ديتها رغم التخلص من المركزية و العراقيل البيروقراطية و الدخول في مرحلة اللامركزية فلم تتمكن المؤسسات العمومية من التخلص من عجزها بالرغم من ال
إن النظام الاقتصادي الموجه الذي يتميز بتخطيط و مراقبة وتنظيم الاستثمار والاستهلاك , ومتحكمة فيه إدارة مركزية قوية عن طريق قطاع عام يين جليا ضعف الاقتصاد الوطني وتبعياته للخارج بصفة مذهلة فالمؤسسات الوطنية التي كانت من بين الأهداف التي أنشأت من أجلها توفير السلع والخدمات , لم تكن قادرة على تحقيق ذالك , وبالتالي أصبحت تشكل عبآ ثقيلا على الدولة التي كانت تحول العجز المتراكم لهذه المؤسسات الناتج أساسا عن كونها وجدت لا لتحقيق النتائج الاقتصادية , بل لأجل القيام بدور اجتماعي حتى ولو كان ذلك على حساب النجاعة الاقتصادية ,مما جعلها تكون دائما عجزة على الوفاء بالتزاماتها المالية اتجاه البنوك والمؤسسات المالية الأخرى نتيجة لكل هذه الظروف والصعوبات , فقد فكرت الدولة في إيجاد بعض من الإصلاحات الضرورية التي من شأنها إخراج البلاد من أزمتها الخانقة والنهوض باقتصادها .
لقد تمثلت هذه الإصلاحات في مرحلتها الأولى في التفكير في إعادة الهيكلة العضوية والمالية لمختلف المؤسسات العمومية ثم تلتها إجراءات أخرى اتخذتها الدولة للخروج من هذا المأزق لكن بدون جدوى ,لأن كل الإصلاحات باءت بالفشل ولم تتمكن من مواجهة كل الصعوبات المالية والاقتصادية التي تعاني منها المؤسسات العمومية بل بالعكس فقد تأزمت الوضعية أكثر من السابق بفعل تدهور قيمة الدينار وقلة الصادرات و زيادة الواردات ,وبالتالي ازدادت و تراكمت مديونية المؤسسات العمومية التي أثرت سلبا على حيويتها و نشاطها الاقتصادي .
ونظرا لعدم نجاح هذه السلسلة من الإصلاحات الاقتصادية فقد فكرت الدولة في إنتاج سياسة اقتصادية جديدة , تهدف إلى إخراج البلاد من هذا الوضع المتأزم في إطار إجراءات جديدة بأكثر صرامة , والمتمثلة في التطهير المالي و الاستثماري اللذان يمهدان للدخول في اقتصاد السوق
إن التطهير المالي يعتبر كضرورة حتمية من أجل إعادة التوازن المالي و الهيكلي لمختلف المؤسسات العمومية و هذا لكي يتسنى لها تغطية كل التكاليف والأعباء الخاصة بها.
وقبل التطرق إلى دراسة هذا الموضوع , لابد من طرح مجموعة من الأسئلة و التي سنحاول الإجابة عنها من خلال دراستنا :
ما هو التطهير المالي ؟ و ما هي أهميتها ؟
هل التطهير مرحب به من المؤسسات مهما كان نوعها ؟ وهل المؤسسات مهيأة لرفع هذا التحدي ؟
ما هي الإجراءات التي تم تطبيقها من أجل الوصول إلى التطهير ؟
ما هي العمليات المستقبلية في مجال التطهير ؟
هل التطهير الحالي هو العلاج الشافي لداء العجز المالي التي تعاني منه الكثير من المؤسسات العمومية ؟
هل يمكن اعتباره منشط حيوي تتلقاه المؤسسات العمومية حتى تستطيع الاستمرارية ؟
هل يستطيع التطهير المالي إنقاذ المؤسسات العمومية من الإفلاس ؟
هل هناك تناقضات في المصالح عند تطبيقه ؟
من سيدفع الفاتورة ؟ ثم كيف ومتى ؟ ومن سيقوده ؟
و سنحاول من خلال البحث الإجابة عن هذه الأسئلة الرئيسية التي تحتويها إشكاليتنا من خلال المنهجية التالية :
قد تناول تقييم البحث جزء نظري و جزء تطبيقي وسنعالج في النظري فصلين أساسيين :
الفصل الأول : عرض لطبيعة الاقتصاد الجزائري بحيث يتم التركيز على أهم المراحل التي مرت بها المؤسسات العمومية الاقتصادية الجزائرية منذ الاستقلال لإلى غاية يومنا هذا ,وقد قسم هذا الفصل إلى ثلاث مباحث :
المبحث الأول : هو التوجيهات الاقتصادية للجزائر خلال الفترة ما قبل سياسة الإصلاحات الهيكلية أما المبحث الثاني : يتطرق إلى مجموعة الإصلاحات الهيكلية التي قامت بها الدولة الجزائرية , أما الثالث يتطرق إلى أسباب فشل المؤسسات العمومية في تحقيق أهدافها , و ما كان يجب أن تقوم به في هذا الإطار ثم إلى خلاصة الفصل .
الفصل الثاني : تطرقنا فيه إلى جوهر الموضوع و أساسه , ومن أجل هذا فهو يناقش ثلاث مباحث ترتبط جميعها بمفهوم التطهير المالي و إجراءاته .
المبحث الأول : يتمثل في تعريف التطهير المالي و أهدافه و عناصره , أما المبحث الثاني فيتطرق إلى العمليات المسبقة للتطهير المالي ثم الإجراءات المحاسبية القانونية والمالية ,ثم العمليات التقنية لهذه الإجراءات على مستوى مختلف المؤسسات العمومية في المبحث الثالث يتطرق إلى دور مختلف العملاء بسير عمليات التطهير المالي ,حيث ركزنا على أهم الموارد التي تعتمد عليها الدولة في سياسة التطهير المالي , ثم تحديد المسؤوليات على جميع المستويات بغية التطبيق الفعلي لإجراءاته ,ثم نتعرض إلى التناقضات المطروحة في تطبيق هذه السياسة .
تمهيد :
لقد خاض الشعب الجزائري حربا شرسة من اجل الحصول على حريته وسيادته على ثرواته ,وعند الاستقلال وجدت الجزائر نفسها في وضعية مزرية وصعبة ومعقدة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ,فلقد ورثت الجزائر بعد حرب التحرير هياكل اقتصادية مفككة بعد إن كانت في فترة الاحتلال مستغلة من طرف المعمرين .
إن هذه التركة ألزمت على الدولة الجزائرية تجنيد واستثمار كل طاقاتها المتوفرة في البلاد,للقضاء على ظواهر التخلف التي كان يعاني منها الجزائريون وجعل الجهاز الاقتصادي يشتغل لتلبية حاجات المواطنين .
ونظرا لحالة الانهيار التي كان عليها الاقتصاد الوطني آنذاك ,استلزم على الدولة إنشاء قطاع عام بامكانه تعويض الدور الذي كانت تقوم به الشركات الفرنسية ,وكذلك نظرا للتوجهات السياسية وتبنى الاشتراكية كنموذج تنمية تخضع ملكيته لها على خلاف اغلب الدول المستقلة حديثا , والتي تبنت نظاما تلعب فيه الدولة دورا رياديا ,تعتمد في تسييره على خطط التنموية تهدف إلى تطوير القطاعات الاقتصادية ( زراعة ,صناعة ,خدمات...) تأخذ في الحسبان قبل كل شيء تحقيق الأهداف الاجتماعية ,وتم العمل بذلك في بداية الثمانينات , ثم مع الأزمات المتعاقبة بدا التفكير تدريجيا في الدخول إلى اقتصاد السوق ,وعليه سيتم دراسة الفترة التي سبقت عملية الدخول إلى اقتصاد السوق في المباحث التالية
المبحث الأول : ماهية القطاع العام ( لمحة عن القطاع العام )
المطلب الأول :
تعريف القطاع العام : يقصد بالقطاع العام وحدات قطاع الأعمال التي تدار من قبل الحكومة ,والتي يمكن تدار من قبل القطاع الخاص ,وتقوم المؤسسات العامة بإنتاج السلع والخدمات وتقديمها إلى الجمهور بالأسعار الإدارية .
ويؤدي هذا النشاط الحكومي لإدارة هذه المشروعات أو المؤسسات إلى تعطيل آليات السوق وتشويه المنظومة السعرية , وعادة ما يرتبط القطاع العام بالتخطيط المركزي للاقتصاد , ولكنه غير ضروري لوجوده .
ويدخل العامل السياسي بقوة عندما تتدخل الدولة عن طريق التعليل المباشر للمشاريع الإنتاجية .
ويستهدف وجود القطاع العام تغيير الهيكل الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية عند محاولة تخليصه من اية شوائب محلية أو أجنبية تقف في طريق استقلاله الاقتصادي والسياسي.
المطلب الثاني :
القطاع العام ومفهوم تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني : تدخل الدولة يعني وجود الدولة بأجهزتها القانونية والسياسية والأمنية , فالدولة أو الحكومة هي قطاع الإدارة العامة وهي تؤثر في الأداء الاقتصادي للوحدات الإنتاجية بصرف النظر عن شكلها القانوني , فللدولة دور هام في الاقتصاد تنظيمي ورقابي وتوجيهي وتصحيحي , ويتمثل تدخل الدولة على صعيد السياسات الاقتصادية العامة من خلال توجيه الأنشطة الاقتصادية والتأثير فيها , وذلك في ما ترسمه من أهداف اقتصادية واجتماعية واضحة ,وتقترن السياسات الاقتصادية بسياسات نقدية ومالية وسياسية التوظيف والأجور.
إن مجرد تدخل الدولة في الاقتصاد قد يكون لمصلحة القطاع الخاص, وتعديل مسار الاقتصاد نتيجة سلوكيات القطاع الخاص نفسه , وهو أمر لا علاقة له بالقطاع العام .
ولابد من التفرقة بين دور الدولة في الحياة الاقتصادية وتوسع القطاع العام , فتعظيم دور الدولة في الحياة الاقتصادية لا يتأتى بالضرورة من خلال وجود قطاع عام قوي أو من خلال تخطيط مركزي فحسب , فوجود قطاع خاص لا يتنافى مع وجود تخطيط تأشيري فاعل في تخصيص الموارد إذا ما اقترن ذلك بسياسات نقدية ومالية جدية , ومع
وجود دولة قوية تمارس سيادتها وسلطتها الرقابية في التحقيق من تنفيذ هذه السياسات وليس أدل على ذلك من إن التخطيط التاشيري في دولة مثل فرنسا ليس له الدور نفسه في ظل حكومة الحزب الاشتراكي الذي كان له من قبل .
المطلب الثالث :
الأسس العقائدية الإيديولوجية للقطاع العام : لابد لنا في البداية من ملاحظة إن المجالات المحددة لكل من القطاع الخاص والقطاع العام , لابد من إن يعكس إما صراحة أو ضمنا , الفلسفة التي تنتهجها الدولة والمجتمع حول كل من دور الدولة في الحياة المجتمعية والتنظيم المجتمعي المستهدف , ولنتذكر إن دور الدولة كان يعتبر في البداية مقتصرا على واجبات الأمن والدفاع والعدالة , ولكن بالتدرج ظهر أن هناك مجالات لا يريد المجتمع إبقاءها في إطار النظام السعري , وهي مجالات الرفاه الاجتماعي ,وفي مقدمتها التعليم والصحة والضمان الاجتماعي و بعض الخدمات الضرورية مثل خدمات المرافق العامة من موانئ وطرق و ربما أيضا ماء و كهرباء ,وقد زاد بالتدرج دور الدولة في تلبية هذه الحاجات الاجتماعية .
فقد تعرضت الأسس العقائدية الإيديولوجية التي كانت قد شكلت السياسة الاقتصادية و تطبيقاتها قبل الحرب العالمية الثانية , تعرضت كلها إلى الزوال بفعل ما جاءت به الحركات القومية من تغييرات هيكلية جذرية استهدفت توسيع القطاع العام , وصارت الدولة تؤدي دورا مسيطرا كما أدت إلى نمط مختلف لتوزيع الدخل الأمر الذي دفع بطبقات واسعة من الفقراء المعدمين إلى المجرى الرئيسي للاقتصاد الوطني ,ولم يعد تقرير توزيع الناتج القومي بواسطة القوى العمياء لآلية السوق وحدها فأصبح ينظر إلى تلبية الحاجيات الأساسية في السياق الحالي كمقوم إنمائي.
لأنها تشكل دافعا ومولدا لنشاط العمل , كما أن القطاع الحكومي والعام يوفر فرص عمل كثيرة , غير أن القطاع العام بموجب تحديد الصارم له إذا عنينا بالقطاع العام القطاع الإنتاجي بذاته وخارج الأنشطة الوزارية التقليدية لا يوفر إلا جزءا محدودا من
التقديمات التي توفرها الوزارات المختصة أخذ القطاع العام يتوسع على نحو مهول في الأقطار النفطية , بغض النظر عن توجهاتها الإيديولوجية , فقد صارت تمتلك الشطر الأعظم من مجموع الناتج القومي الإجمالي العربي , وتبع ذلك زيادة كبرى في الخدمات الاجتماعية وفي المهمات الترفيهية التي تتولاها الدولة في هذه الأقطار .
والسؤال هل كان من الضروري قيام قطاع عام ولا مفر من ذلك؟ أدت الصدفة التاريخية والمرتكزات الثقافية في البلدان العربية دورا مهما في ظهور المشروع الحكومي وزيادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي .
1. ف " تعريب الإدارة " الأجنبية بعد الاستقلال أورثت البلدان العربية المستقلة حديثا وضعا راهنا , فإلى جانب الجهاز الإداري هناك مشروعات عامة كبيرة , تحت إشراف الإدارات الإستعمارية لأسباب سياسية و اقتصادية , فكان على الدولة الجديدة أن تستمر في إدارة هذه المشروعات و المؤسسات .
2. ورثت كل البلدان العربية في الوقت نفسه علاقات خارجية مكيفة ومرتبطة بالمراكز الغربية , وكانت تجارتها في حالة عجز مستمر ,الأمر الذي اضطر حكومات هذه البلدان إلى التدخل في ميدان التجارة الخارجية .
3. ما كان معروفا من مدركات وموارد طبيعية أو تم إكتشافه فيما بعد آل إلى الدولة إدارة و ملكية ,و لما كانت الموارد الطبيعية هي المصدر الرئيسي للعملات الخارجية , وتساهم في نصيب كبير في الدخل القومي ,فقد تحولت ميزانية الدولة إلى مركز حساس للنصيب الاقتصادي .
4. في مراحل لاحقة تم " تقريب " النشاط الإقتصادي الحكومي والفردي المملوك للأجانب في ظل الإدارة الإستعمارية ,الأمر الذي أملته ظروف خاصة في كل بلد , وأمتد النشاط الإقتصادي للدولة ليشمل المشروعات الفردية والحكومية " المعربة " أو المجوهرة في بعض البلدان كما حدث للجزائر.
5. إلحاح التنمية الاقتصادية وضرورة تحقيق معدلات نمو عالية و التوجه العام نحو التخطيط الاقتصادي ,دعا إلى مزيد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لتأمين تنفيذ الخطط الاقتصادية ,كما طرح شعار الاشتراكية سياسيا واقتصاديا لتبرير تأميم القطاع الخاص و إحكام القبضة على الاقتصاد القومي .
المطلب الرابع :
القطاع العام والضرورة التنموية : إن وجود قطاع عام كبير و مؤثر أمر ضروري للسيطرة على الموارد الاقتصادية الوطنية ,و امتلاك هذه السيطرة مطلب أساسي و ضرورة موضوعية في أية دولة سعى إلى القضاء على الروابط التبعية و إرساء قواعد الاستغلال الإقتصادي .
إن قيام قطاع عام يعتبر شرطا لضمان درجة معقولة من السيطرة على توجيهات التنمية و ذالك في ظل ندرة الوسائل البديلة للتأثير الفعال في مجريات الأمور الاقتصادية وضعف تأثير السياسات النقدية والمالية في بلدان العالم الثالث بوجه خاص ,و لكن الاستقلال الإقتصادي لن يتحقق بمجرد قيام القطاع العام ,ويبقى الأمر معلقا على نوعية السياسات العامة التي تحكم هذا القطاع و هذا الأمر يتوقف على طبيعة السلطة السياسية أي على ,من يحكم من ؟ ولمصلحة من؟ فقد يستخدم القطاع العام كأداة لتكريس التبعية إذا كانت السلطة السياسية بيد فئة قليلة ترى مصلحتها في الارتباط بالدول الرأسمالية الكبرى و السوق المالية العالمية وقد يستخدم القطاع العام كأداة للتحرر من التبعية إذا كانت السلطة السياسية تمثل تمثيلا صادقا ,الأغلبية الفقيرة و التي لا مصلحة لها في استمرار روابط التبعية ومن المرجح أنه في ظل غياب عام قوي و مؤثر ,و ترك الأمور للمبادرة الخاصة و القطاع الخاص تتجه التنمية للاعتماد على الخارج و تنمية الاقتصاد نحو الاندماج في السوق الرأسمالية العالمية ,الأمور التي تكرس علاقات التنمية بينما تقتضي مبادئ التنمية السليمة اقتلاعها من جذورها.
و السؤال هل كان القطاع العام خيارا ؟ نعم إن القطاع العام كان خيار تنموي تمت تحت إنجازات هامة لم تكن لتتحقق من دونه ,وفي مجتمعات مختلفة كمجتمعاتنا ليس هناك خيار إلى أن تقوم الدولة بدورها ,إذ لم يكن لدى الكثير من الدول النامية ففي ذالك الوقت بديل عن الاعتماد على المؤسسات العامة إذ لم يكن القطاع الخاص مقبولا سياسيا و إن رأس المال تميل بوجه عام إلى الانغماس في الاقتصاد (الهش) أي الساعي إلى الربح السريع أيا كان مصدره ذلك إن لم ينغمس في الاقتصاد الأسود .
إن الحاجة إلى قطاع عام في اقتصاد متخلف هو أمر بديهي ,فلا يمكن تحقيق أهداف مثل : النمو الاقتصادي ,تحريك المدخرات الوطنية ,توزيع الاستثمارات القطاعية ,خلق فرص عمل لتوظيف القوى العاملة المتنامية ,و التخطيط لاستعمالها , التوزيع الاقتصادي الدولي , كل هذا لا يمكن تحقيقه من دون أن تلعب الدولة دورا كبيرا في الاقتصاد عبر القطاع العام ,و كما نعرف فإن مالك هذه المدخرات يفضلون استثمارها في الأراضي و مدخرات المضاربة ,و العقارات السكنية ,و تجارة السلع سريعة الدوران ,إن التناقضات واضحة بين الحاجة الملحة إلى تكوين رأس المال و بين الخيارات الفردية ,و بمقدور سلطة الدولة وحدها تغيير وجهة استثمار المدخرات الوطنية .
المبحث الثاني : التوجهات الاقتصادية
المطلب الأول :
مرحلة التسيير الذاتي (1962-1965) : يشكل التسيير الذاتي الصناعي و الفلاحي تجربة مفروضة من الواقع و الظروف السائدة بعد الاستقلال مباشرة ,حيث قام المعمرون الأوروبيون بمغادرة التراب الوطني و تركوا وراءهم المزارع و المؤسسات التي كانوا يديرونها ,وذالك بعد تخريبها وتعطيل الآلات وحرق الوثائق و المستندات و مما أدى إلى وضع غير منتظر ,و أدى إلى تعطل دورة الإنتاج و أمام هذا الوضع لم يبقى العمال و الفلاحون الجزائريون مكتوفي الأيادي ,فقد تحركوا بصورة عفوية و تلقائية و واصلوا عملية الإنتاج و التسيير المؤسسات والمزارع رغم كل الصعوبات . وقد أدى هذا المسعى إلى تجسيد نمط جديد للإدارة يسمى " التسيير الذاتي " والذي تمت تزكيته من طرف السلطة السياسية آنذاك ,حيث أصدرت عدت قرارات تحدد الصيغة التنظيمية للمزارع و المؤسسات المسيرة ذاتيا و التي تتمثل في :
قرار 23 نوفمبر 1962 المتعلق بتشكيل لجان التسيير الذاتي داخل المؤسسات الصناعية و المنجمية و الحرفية
قرار 18 مارس 1963 الذي ينص على تأسيس الهيئات التالية: مجلس العمال ,المجلس العام العمالي ,لجنة التسيير ,المدير
إن ولادة هذا النمط من التسيير جاء بفعل عدة أسباب منها الذهاب الجماعي و المكثف لأرباب المزارع و المؤسسات الإنتاجية الأوروبيين .وكذلك للوقوف في وجه أطماع البرجوازية الجزائرية التي نمت أثناء الثورة و كانت تتطلع إلى الإستلاء على الممتلكات بعد خروج المعمرين لتحل مكانهم ,غير أن يقضة العمال و الخلافات التي سادت داخل الحركة الوطنية حالت دون ذلك ,الأمر الذي دفع بالسلطة آنذاك إلي تقنين
التسيير الذاتي تحت ضغط المعارضة من جهة , ولكسب ثقة الشعب من جهة أخرى . وبهذا فإن ظهور التسيير الذاتي كان نتيجة منطقية للظروف الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي عرفتها الجزائر بعد الاستقلال .
أما عن تسيير المؤسسات في إطار نظام التسيير الذاتي فقد كان يتم بواسطة لجنة التسيير الذاتي التي يقوم العمال بانتخابها , ثم يقوم أعضاء هذه اللجنة باختيار رئيس لها من بينهم بطريقة ديمقراطية ,و إلى جانب الرئيس يوجد مدير يعين من طرف الوزارة الوصية و هذا ما يشكل تناقض جوهري في مضمون التسيير الذاتي " مما يدل على تردد في تطبيق المركزية و اللامركزية في عملية تسيير المؤسسات الاقتصادية وذلك لوجود حالة من الازدواجية مكونة من مدير معين و هيئة منتخبة ,و كون المدير هو أقوى من الهيئة المنتخبة الأمر الذي يدل على تكريس المركزية و التعقيدات البيروقراطية وعدم تجسيد المشاركة الفعلية للعمال في التسيير و اتخاذ القرارات .
ولقد استغل المديرون الأمية المنتشرة في أوساط العمال لبسط نفوذهم ," وممارسة مركزية اتخاذ القرارات و عرقلة نشاط العمال بل و تأخير حتى رواتبهم الشهرية مما أدى إلى سوء الاتصال التنظيمي بين العمال و الإدارة وترتب عنه شل نشاط مجالس العمال وقد أدت هذه الإجراءات إلى إثارة العديد من الصراعات داخل المؤسسة المسيرة ذاتيا .ويمكن عرض أسباب ذلك فيما يلي :
شعور العمال بالغبن نتيجة عدم تحسن أوضاعهم كما كانوا يتوقعون و يرجون منذ أمد بعيد
سوء الاتصال التنظيمي بين العمال والإداريين نتيجة تكوين حواجز نفسية (اتجاهات سلبية ) واحتكار السلطة والمعلومات من طرف الإداريين
بيروقراطية الهيئات الوصية وبطئ الإجراءات الإدارية و اتخاذ القرارات
إقصاء العمال من المشاركة في صنع القرارات والتسيير
فقدان الثقة في مبادئ التسيير الذاتي
انخفاض الروح المعنوية وضعف الأداء
عدم كفاية الأجور و ضعف القدرة الشرائية للعمال ,وسوء العلاقة بين العمال و المسييرين
إن أسباب الصراعات العمالية في هذه المرحلة تتعلق بطريقة التسيير وتنظيم المؤسسة ,ونقصد بذلك بروز فئة من المسيرين و ذوي التخصصات استأثرت ببعض المزايا المادية و الإدارية و تحولها إلى فئة بيروقراطية تحتكر السلطات و اتخاذ القرارات , وذلك ما يفسر استمرار الصراع في إطار هذا النظام (التسيير الذاتي ),ولا يمكن أن نتوقف في بحث أسباب الصراع في إطار المؤسسة المسيرة ذاتيا , بل يجب أن نحلل المحيط الإقتصادي و الاجتماعي الذي يحيط بها و يؤثر على تشكيل مواقف العمال بداخلها , فقد أصيب الاقتصاد الوطني بالركود و الجمود ,"حيث انخفض الإنتاج بالقيمة الحقيقية بحوالي 35% كما انخفض معدل الواردات لمعدل 40% بالأسعار الجارية , بالإضافة إلى احتكار الشركات الأجنبية للاستثمار في القطاعات الحساسة و الهامة , وعلى رأسها قطاع المحروقات ( وذلك بموجب اتفاقية أيفيان ) ,وضعف القطاع المسير ذاتيا بسبب منافسة رأس المال الأجنبي له ,و احتوائه على مؤسسات ذات نشاطات هامشية ,مما جعله لا يشارك بصفة فعالة في تنمية الاقتصاد الوطني ,هذا بالإضافة إلى الصعوبات التي كانت تواجهه من حيث التموين و التسويق وقلة رؤوس الأموال .
إن هذه الوضعية المتدهورة التي عاشها الاقتصاد الوطني أثرت على الوضع الاجتماعي للبلاد ,حيث ارتفعت نسبة البطالة نتيجة غياب الاستثمارات ,وتدهور المستوى المعيشي للسكان نتيجة قلة دخوله ,ففي جانفي 1966 صدرت وثيقة تقييم
الدخول جاء فيها أنه " إذا قمنا بفحص الوضع الاجتماعي من زاوية توزيع الدخول و مصادرها ليتبين لنا ضعف نسبة الدخول الموزعة من قبل مؤسسات القطاع المنتج ,؟هذا رغم التضخم المصطنع في مراكز العمل بالنسبة لجميع القطاعات " مما يدل على أن مدا خيل العمال كانت ضعيفة ,الأمر الذي دفعهم إلى خوض إضرابات في سبيل زيادتها .
إذا في هذه المرحلة عرفت المؤسسة العامة الجزائرية أسلوبا من التنظيم و الإدارة يسمى التسيير الذاتي ,وقد أدى هذا الأسلوب إلى بروز العديد من الصراعات بين العمال و الإدارة .
المطلب الثاني :
الشركة الوطنية (1965-1971) : إن المساعي الرامية إلى بناء الاشتراكية في الجزائر قد توقفت بعد الاستقلال بسبب نوع السلطة التي تأسست آن ذاك هذه السلطة التي كانت تسعى للحصول على قاعدة شعبية ,و اعتمادها على ديماغوجية محضة عن طريق الخطابات الشعبية ( خطابات و شعارات دون أعمال ونتائج ).
مما أثر سلبا على تطور البلاد وعلى تحقيق التنمية الوطنية ،لقد تركت هذه السلطة القطاعات الحيوية والهامة التي يتوقف عليها بناء اقتصاد وطني حقيقي ،والتي لا يمكن المضي في طريق التنمية بدونها لرأس المال الأجنبي ،و احتفظت بقطاعات هامشية لا تأثير لها في بناء الاقتصاد الوطني ،هذا بالإضافة إلى عدم اهتمامها بالطبقة العاملة وََظروفها المتدهورة من جراء الاستعمار و الاستغلال الأجنبي،و أستمر الوضع على هذا الحال إلى أن جاء التصحيح الثوري في 19جوان 1965 الذي يعد بمثابة نقطة انعطاف وتحول جذري في كيان المجتمع الجزائري من خلال الانطلاق في طريق التنمية وبناء الاشتراكية ،ذلك أن بناء الاشتراكية لا يتم بإمكانيات ضعيفة .كما لا يمكن أن يقوم به شخص واحد ،بل إن ذلك لا يتأتى الأمن خلال تجنيد الطاقات الحية في البلاد لا سيما العمال واستغلال جميع الثروات الوطنية بصورة عقلانية .
لقد كان التصحيح الثوري مضيئا في بدايته على الجانب السياسي،ثم أعقبه تصحيح اقتصادي واجتماعي بهدف تحقيق حاجات الشعب بمختلف فئاته ،وقد تميزت هذه المرحلة بصدور العديد من القوانين منها: الأمر رقم 66-183 المؤرخ في يونيو 1966 الخاص بتعويض إصابات العمل والأمراض المهنية ،وتلاه صدور نصوص تطبيقية في 27 ديسمبر 1966 ،وفي 19 مارس1966 وذلك ما يعبر عن السعي لإيجاد منظومة قانونية جزائرية تنظم مجال العمل وغيرها من المجالات الأخرى والحد من القوانين الفرنسية التي كانت سارية المفعول .
لقد كان الهدف في هذه المرحلة يتمثل في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والحد من نفوذ الرأسمال الأجنبي وبناء اقتصاد وطني قوي ,و لتحقيق ذلك شرعت السلطة انطلاقا من سنة 1966 في إجراء تأميمات سريعة ومكثفة للمناجم والبنوك والتامين والعديد من الصناعات الأخرى ,و لتسيير هذه الخيارات المؤممة عملت الدولة على إنشاء العديد من الشركات الوطنية فبرزت شركات متنوعة منها : الشركة الوطنية للمناجم " سونارام " سنة 1966 و " الشركة الوطنية لمواد البناء " سنة 1967 والشركة الوطنية للعربات سوناكوم 1967 و" الشركة الوطنية للمصبرات " سنة 1966وغيرها .
إن إنشاء الشركة الوطنية بات مؤكدا في ميثاق الجزائر الذي يعتبرها بمثابة" الأداة التي يمكن بواسطتها القيام بالنشاطات الاقتصادية الرئيسية إذا كانت السلطة تقوم " بالحد من مجالات التراكم بالنسبة للبرجوازية الخاصة من جهة ،وتضع تدريجيا القطاعات المسيرة ذاتيا تحت سيطرتها من جهة ثانية وهذا ما يدل على أن نظام التسيير الذاتي لا يزال قائما في هذه المرحلة ، غير أن الدولة وبعد الشروع في المخطط الثلاثي الأول (1967- 1969) عملت على وضع العديد من المؤسسات المسيرة ذاتيا كما هو موضح في الجدول التالي:
جدول رقم 1 تناقص عدد العمال في القطاع الصناعي المسير ذاتيا
السنة 1969 1970 1971 1972 1973
عدد العمال 18492 15927 12202 10763 9903
النسبة المئوية للاستخدام الصناعي 12.8 10.2 7.1 5.8 4.7
إن الإقبال الكبير على الشركة الوطنية يرجع إلى ارتفاع نسبة البطالة ,وإلى حجمها العملاق وقدرتها على استيعاب أعداد هائلة من العمال , ناهيك عن الحوافز المغرية والرواتب الشهرية المرتفعة التي تقدمها والتي تفوق الرواتب المقدمة في كل من قطاع الوظيف العمومي والقطاع الخاص والمسير ذاتيا , مما أدى إلى زيادة الإقبال عليها و انخفاض عدد العمال في القطاعات الأخرى لاسيما القطاع المسير ذاتيا , الأمر الذي يدل على بداية تراجع هذا القطاع لقد جاء إنشاء الشركة الوطنية لتحقيق العديد من الأهداف من بينها :
تلبية حاجات الاستهلاك الوطني .
إيجاد سوق واسعة لتصريف منتجات الصناعة .
إيجاد أقصى ما يمكن من الوظائف لامتصاص البطالة .
ونشير هنا إلى أن الشركة الوطنية تتكون من عدة وحدات مترامية عبر التراب الوطني أي أنها نشأت بفعل تجميع هذه الوحدات , والتي تختلف من حيث مستوياتها التكنولوجية بالإضافة إلى تنوع وضعيتها التجارية مما أدى إلى صعوبة إقامة هياكل تنظيمية على مستوى كل الشركات وذلك ما جعل تسير هذه الوحدات من ابرز مهام
الشركات الوطنية التي أصبحت مسئولة عن تسييرها وتحقيق أهدافها بالتماشي مع أهداف التنمية الوطنية .
أما بخصوص تسير هذه الشركات فإن الأمر يتمثل في وجود مدير عام يتم تعيينه بموجب قرار وزاري , يتولى تسيير الشركة تحت سلطة الوزارة الوصية ويتمتع بسلطات واسعة ,وإلى جانبه توجد هيئة استشارية تساعده في تسيير شؤون الشركة تتألف من ممثلين عن بعض الوزارات والحزب .
وبذلك فإن الدولة هي الممثلة وحدها في هذه الهيئة التي ينحصر دورها في ممارسة اختصاصات استشارية محضة, و بذلك ما يقوي من سلطة المدير وسيطرته على التسيير واتخاذ القرارات ويجعله الفرد الذي يضع سياسة المؤسسة وحده باعتباره الرجل الوحيد المسير للمؤسسة في هذه المرحلة , غير أن النقطة الهامة التي يمكن ملاحظتها هنا هي عدم إقامة أي تنظيم لمشاركة العمال في عملية اتخاذ القرارات بهذه المؤسسات في هذه المرحلة , مما قد يؤدي إلى فتح المجال للصراعات والمشاكل حول هذه القضية أي مشاركة العمال في التسيير .
بالإضافة إلى ما سبق فان أهداف ووظائف الشركات الوطنية كانت تحدد من طرف الجهاز المركزي والسلطة الوصية , وذلك في إطار الاستراتيجية الوطنية العامة التي تتمثل في تلبية مطالب العمال الاجتماعية وتحقيق الاستقرار السياسي للبلاد, وذلك ما جعل القرارات تتخذ من خارج هذه الشركات أي من طرف الإدارات المركزية , وفي ذلك تكريس للمركزية, وما يرتبط بها من تعقيبات بيروقراطية وجمود أو بطء في اتخاذ القرارات .
إن الحجم العملاق للشركات الوطنية والسلطات المطلقة التي منحت للمسيرين بها أدى إلى بروز المشاكل البيروقراطية المرتبطة بسوء الاتصال العمودي , وبحجم السلطة التي أكسبتها بعض المسيرين الإداريين ,وذلك ما أدى إلى إثارة العديد من
الصراعات بداخلها بسبب سوء المعاملة بين الإدارة والعمال والمشرفين , وبسبب تدهور ظروف العمل والمطالبة برفع الأجور وتحسين الخدمات وغيرها ,خاصة بعد غياب المشاركة العمالية وإلحاق النقابة بالحزب خلال المؤتمر الثالث للحزب (حزب جبهة التحرير الوطني ) , الأمر الذي جعلها تقوم بتعبئة العمال لخدمة مشاريع الدولة أكثر من قيامها بالاحتجاج والمطالبة والدفاع عن مصالحهم ,أي أنها تحولت إلى وسيلة لتدعيم سياسة الدولة ولتحقيق مشاريعها , وقد شهدت هذه المرحلة عدة اضطرا بات , إذ جاء في التقرير المقدم لمؤتمر الاتحاد النقابي المحلي لمنطقة الجزائر الوسطى في جوان 1966 إن هناك 3377 عامل في حالة اضطراب و 10428 ساعة عمل ضائعة من جراء الأضرار خلال الثلاثي الأول من سنة 1966 .
ويهدف التقليل من الاضطرابات والقضاء عليها فقد عملت السلطة على فرض " حصار إعلامي على كل المعلومات الواردة بشأنها " وبعد ذلك جاءت المادة (171) من قانون العقوبات تمنع اللجوء إلى الإضراب ,والتي تضمنت العقوبات الواردة بشان المخالفين لذلك ولكل من يحاول وسائل للضغط لتحقيق مطالبه أو المساس بحرية العمال غير أن ذلك لم يمنع من ظهور هذه الممارسات بسبب ما سبق ذكره من أسباب .
وهكذا نلاحظ عدم الاعتراف بحق الإضراب في هذه المرحلة ويعود إلى كون هذه المرحلة تشكل عقبة التحول نحو الاشتراكية ومشاركة العمال , وبالتالي البحث عن إزالة التنافس بين مصالح الدولة ومصالح العمال وإزالة التناقضات الموجودة في علاقات العمل ولتحقيق ذلك أصدرت السلطة ميثاق التسيير الاشتراكي للمؤسسات .
إذن تميزت هذه المرحلة بإنشاء الشركة الوطنية وهو أسلوب جديد لتنظيم وإدارة المؤسسات العامة بالجزائر , غير أن هذا الأسلوب من التنظيم والإدارة قد أدى إلى حدوث مشاكل وإضطرابات , الأمر الذي دفع بالسلطات إلى إصدار ميثاق التسيير الاشتراكي للمؤسسات .
المطلب الثالث :
مرحلة التسيير الاشتراكي للمؤسسات (1971ـ 1980) :لقد بينت الجزائر الاشتراكية كوسيلة لتحقيق التنمية الوطنية وتحسين ظروف الشعب الجزائري الذي عانى الكثير من ويلات الاستعمار الفرنسي , والقضاء على التفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع , وذلك من خلال القضاء على النظام الرأسمالي القائم على الاستغلال والذي كان سائدا إبان الاستعمار .
وقد تحددت معالم هذا الاتجاه قبل الاستقلال , من خلال مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956, وبرنامج طرابلس في جوان 1962 , وفي ميثاق الجزائر بعد الاستقلال سنة 1964 وتتركز الاشتراكية على نظام الإنتاج الاشتراكي القائم على التعاون بين جميع المنتجين ,وعلى الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ونبذ الاستغلال , وتهدف الاشتراكية إلى تذويب الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع , والقضاء على التعارض بين العمال والرأسمالي وتحويلها إلى خدمة المجتمع وتلبية حاجاته , وهي تسعى بشكل رئيسي إلى النهوض بالطبقة العاملة وتحسين ظروفها .
ويتميز النظام الاشتراكي بمركزية التخطيط الشامل واتخاذ القرارات , وذلك للقضاء على الفوضى الاقتصادية وغيرها , كما يتميز أيضا بوجود هيئة مركزية تتمثل في الحزب الواحد كحزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر سابقا , والذي يقوم بإعداد وتوجيه سياسة البلاد ومراقبة تطبيقها , لأنه دون حزب طلائعي حقيقي يكون المعبر الوفي عن مطامح الشعب العميقة , والحارس اليقظ على اختياراتنا ستتعرض الدولة لمرض الشلل وعدم الفعالية والبيروقراطية .
وبهذا فإن الحزب هو الذي يتولى رسم سياسة البلاد وممارسة الرقابة والإمساك بزمام الأمور .
وقد ظهر التطبيق الفعلي للنظام الاشتراكي في الجزائر في 16 نوفمبر 1971 , وذلك بموجب صدور وثيقة ,وذلك بموجب صدور وثيقة رسمية لتسيير المؤسسات العمومية بصورة جماعية وفقا للمنهج الاشتراكية ,وكان القصد من ورائه تطبيق المباديء الاشتراكية في تسيير المؤسسات العامة,خاصة مبدأ اشتراك العمال و التسيير ,وذلك لهدف تجاوز علاقات العمل السلعية القائمة على الأجر فقد أصبح العامل منتجا ومسيرا في نفس القوت.
لقد جاء هذا النظام لتجريب الديمقراطية في عالم الشغل واشتراك العمال في التسيير واتخاذ القرارات وممارسة الرقابة ,وتحسين ظروفهم ورفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتقني ,وتحسين ظروف حياة الجماهير الشعبية عامة ,ورفع مستوى الإنتاج الوطني وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة و الاستقلال الاقتصادي ,وقد صاحب صدور هذا القانون اتخاذ عدة قرارات مست الحياة الاجتماعية و الاقتصادية للبلاد ,ونعني بذلك قرار التخطيط الإجباري الذي يعتبر كخطوة هامة ,"لمساعدة الدولة ليس فقط لضمان مراقبة تسيير النشاطات الاقتصادية فحسب , بل ولتتدخل فعليا في كل وظائف الشركات " وقرار تأميم المحروقات الصادر يوم 24 نوفمبر 1971 , ومجموعة النصوص الخاصة بالثروة الزراعية في 8 نوفمبر 1971 , وكان كل ذلك في إطار المخطط الرباعي الأول (1970-1973) الذي كان منصبا على تدعيم الاستثمار في القطاعين الصناعي والزراعي .
إن تطبيق نظام التسيير الاشتراكي يتم في إطار المؤسسة الاشتراكية , التي هي " ملك للدولة تابع للقطاع العام تتولى الدولة الاستثمار فيها ومشاركة العمال في إدارتها وتسييرها وهي تسير حسب مبادىء التسيير الاشتراكي , ويتكون رأس مالها من أموال عامة , وتتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي , وتتضمن وحدة أو عدة وحدات , ويعتبر عمالها منتجون ومسيرون في إن واحد .
وترجع تنمية المؤسسة الاشتراكية إلى سببين جوهريين يتمثل أحدهما في أنها أداة تنفيذ للمشروعات التي اقتضتها السياسة الاشتراكية ويتمثل السبب الثاني في أنها تسير طبقا لمبادىء التسيير المحدد في الميثاق الاشتراكي للمؤسسات .
ولعل من ابرز هذه المباديء مشاركة العمال في تسييرها وفقا للقوانين الصادرة في هذا الشأن ,وبهذا فان المؤسسة الاشتراكية تعد بمثابة الوسيلة الأساسية لتحقيق أهداف التنمية الوطنية على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ,حيث تقوم بوضع الهياكل العامة لها ولوحداتها وتحديد أهدافها في إطار مخططات سنوية تتماشى مع المخططات الوطنية والعمل على التنسيق بين نشاطات هذه الوحدات في ميدان الإنتاج والتسويق و في الجانب المالي و الاجتماعي كما تقوم بوضع جدول للمرتبات داخل المؤسسة وذلك بالتماشي مع السياسة الوطنية للأجور .
إن أهمية المؤسسة الاشتراكية تبرز من خلال وظائفها وأهميتها في إدارة دواليب الاقتصاد الوطني, ومن ناحية نشاطها ومواردها المالية ,وقد كانت الأرباح التي تحققها هذه المؤسسات توزع على العمال والدولة والمؤسسة حسب حصص معينة ,وتخضع المؤسسة الاشتراكية للرقابة التي تمارسها السلطة المركزية عن طريق الوصاية ,وذلك ضمان الحفاظ على وحدة الدولة من بعض المخاطر وخروج هذه الأشخاص عنها حيث نصت الأوامر المتعلقة بالتسيير الاشتراكي على إن المؤسسة الاشتراكية توضع تحت وصاية الوزير أو الوالي أو رئيس المجلس الشعبي البلدي .
وتعمل الهيئات الوصية على توجيه المؤسسة وممارسة الرقابة عليها وتوفير الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها ,كما تقوم بتعيين المدير العام للمؤسسة وسلطة الوصاية والإدارات الأخرى التابعة للدولة , كما تقوم أيضا باستلام التقارير وتوضيح الأهداف
التي يتعين على المؤسسة تحقيقها في إطار المخططات الوطنية الشاملة , كما تسهر على ضرورة تماشي نشاط المؤسسة مع السياسة العامة للدولة .
لقد جاء التسيير الاشتراكي لبعث الديمقراطية والمشاركة الفعلية للعمال في تسيير وإدارة المؤسسة , وذلك عن طريق ممثلين ينتخبهم العمال في جمعية عامة وفي اللجان الدائمة وفي مجلس الإدارة , وبذلك فان تسيير المؤسسة الاشتراكية يتميز بلامركزية الإدارة ومشاركة العمال حيث ظهرت عدة هيئات تتقاسم تسيير المؤسسة وإدارتها وهي : مجلس العمال , مجلس المديرية , المدير العام للمؤسسة , اللجان الدائمة .
1. مجلس العمال : يقوم العمال بانتخاب مجلس يمثلهم وينوب عنهم يسمى مجلس العمال , ويتمتع هذا الأخير بحرية التصرف في سائر السلطات لمراقبة سير المؤسسة وتنفيذ البرامج وتسيير المؤسسة والمخططات الرامية لتطويرها في إطار المخططات الوطنية الشاملة , وفي الاستثمارات ومصاريف المؤسسة وإيراداتها والتموين والتسويق والإنتاج كما يشارك في إعداد سياسة الموظفين والتكوين المهني , وسيستشار في أي إصلاح يتعلق بوضعية العمال وفي كل التعديلات التي يتم إجرائها على هياكل المؤسسة .
2. مجلس المديرية : يحدث على مستوى كل مؤسسة مجلس مديرية يترأسه المدير العام ويتكون من عدد معين من النواب المباشرين لهذا المدير ومن ممثل أو ممثلين ينتخبها مجلس النواب ويتراوح عدد أعضائه بين ( 9 -11) عضو كحد أقصى وأدنى , ويعمل هذا المجلس على الحفاظ على تسيير المؤسسة , في القضايا المتعلقة ببرامج التسويق والتموين , والإنتاج وتوسيع نشاطات المؤسسة , وبرامج الاستثمار , والميزانية وحسابات الخسائر والأرباح , وإجراء التقرير المالي والاقتصادي لسنة العمل , وقانون المستخدمين وجدول الأجور وتعيين ممثلين للمديرية في اللجان الدائمة للمؤسسة ,بالإضافة إلى تسوية الخلافات.
3. المدير العام للمؤسسة : يعين المدير العام للمؤسسة بموجب قرار يصدر عن الهيئة الوصية , و تنتهي مهامه بنفس الشكل و يتولى المدير العام تسيير المؤسسة تحت سلطة الوزير الوصي ,حيث يكلف بالتسيير العام للمؤسسة في إطار اختصاصاته الموكلة لمجلس العمال .
4. اللجان الدائمة : لقد جاء إنشاء اللجان الدائمة من أجل تحقيق مشاركة العمال في تسيير مختلف نشاطات المؤسسة بشكل دائم و ليس دوري , وتتكون هذه اللجان من أعضاء يعينهم مجلس العمال من بين أعضائه و هذه اللجان هي خمسة:
أ- لجنة الشؤون الاقتصادية و لمالية
ب- لجنة الشؤون الاجتماعية و الثقافية
ت- جنة التكوين و المستخدمين
ث- لجنة التأديب
ج- لجنة حفظ الصحة والأمن
وهكذا نستنتج بأن التسيير الاشتراكي جاء بنوع من التنظيم الرسمي للمؤسسة و ذلك بهدف تغيير نمط العلاقات الإنسانية السائدة فيها والقضاء على سيطرة البيروقراطيين في تسيير المؤسسة ,غير أن ذلك باء بالفشل بسبب طغيان المعايير غير الرسمية وسيادة النزعة التسلطية لدى المسيرين ,بالإضافة إلى العراقيل التي سبق ذكرها ونتساءل هنا عما إذا كان العمال في تلك المرحلة في مستوى هذا التنظيم ؟ وهل كانوا يتمتعون بالمؤهلات العلمية والمعرفية الضرورية للمشاركة في تسيير المؤسسات ؟
إن المتأمل لتلك المرحلة يجد بأن الأمية كانت منتشرة بصورة كبيرة في أوساط العمال ,هما حالة دون مشاركتهم بصورة فعلية في التسيير و اتخاذ القرارات ,الأمر الذي فتح المجال أمام البيروقراطيين ليسط نفوذهم و سلطتهم ,وتحقيق مصالحهم الشخصية ,و قد
جاء تعبير حيث يقول " فسياسة الاستثمارات شملت كل مناحي الحياة بما فيها الصناعة و الفلاحة والتربية و التعليم وعمت كل الميادين الاجتماعية, لكن بالرغم من كل المظاهر الإيجابية لهذه السياسة فإنها ساعدت بكيفية أو بأخرى على بروز العناصر الطفيلية في المجتمع , و هي تلك العناصر التي تجري وراء الربح الرخيص و الكسب الهين الذي يأتي بالنصب و التحايل ,و هذا واقع لابد أن يتفهمه العمال ولابد من الحذر كل الحذر من إن ينجروا وراء هؤلاء العناصر .
إذن عرفت المؤسسة العامة خلال هذه المرحلة نوعا جديدا من التنظيم و الإدارة يسمى بالتسيير الاشتراكي ,إلا أنه تعرض للعديد من العوائق و المشاكل من أبرزها الصراعات و الخلافات بين العمال و الإداريين ,وزيادة العبء المالي للمؤسسة العامة على خزينة الدولة ,و عدم تمكنها من الاعتماد على نفسها , الأمر الذي دفع بالدولة في التفكير في أسلوب جديد لإدارة هذه المؤسسات.
المبحث الثاني : إعادة الهيكلة والاستقلالية
المطلب الأول : إعادة الهيكلة (1980-1988) :ظهرت إعادة الهيكلة بعد تقييم المسار التنموي الذي خاضته الجزائر خلال العشرية السابقة ,حيث ظهرت عدة مشاكل و نقائص منها :
1. مركزية بحتة جعلت الجهاز المركزي للتخطيط يتدخل بصورة مباشرة لاتخاذ القرارات في مكان المسييرين الحقيقيين للمؤسسة
2. تمركز الاستثمارات في قطاع الإنتاج الصناعي
3. تزايد في حجم المديونية الخارجية
4. التراجع في ميدان النمو ,و كذلك كبر حجم المؤسسات الوطنية و صعوبة تسييرها و ارتفاع عدد المستخدمين فيها حيث تشير الإحصائيات إلى أنه في سنة 1980
كانت هناك 20شركة وطنية تشغل حوالي 365000 عامل ,ومن بينها شركة " سونا طراك " التي تشغل لوحدها حوالي 100000 عامل
هذا بالإضافة إلى عجز هذه المؤسسات و ضعف طاقاتها الإنتاجية و تدهور مردو ديتها ,و عدم قدرتها على تحقيق الأهداف المسطرة لها ,و كذلك سوء تسييرها بفعل سيطرة البيروقراطية و اتساع سلطاتهم نتيجة النمو السريع لهذه المؤسسات .
وتحت هذه الظروف ظهرت الضرورة للتخلي عن نضام التسيير الاشتراكي و البحث عن أسلوب جديد للخروج من هذا المأزق و النهوض بالاقتصاد الوطني و تحسين تسيير المؤسسات الوطنية, و ذلك عن طريق إعادة الهيكلة من خلال العمل على التقليص من حجم هذه المؤسسات ليسهل سيرها ,و كانت أول خطوة في هذا المسعى في نوفمبر 1979 عندما عين حزب جبهة التحرير الوطني لجنة لدراسة المواضيع العديدة المرتبطة بإعادة هيكلة المؤسسات الوطنية ,و التخفيف من مركزية التخطيط و التسيير وفي جوان
من نفس السنة قامت وزارة الطاقة بالتحضير لإعادة هيكلة الشركة الوطنية " سونا طراك ", و في 06 أكتوبر 1980 صدر النص القانوني الخاص بعملية إعادة الهيكلة للمؤسسات العمومية .
غير أن التطبيق الفعلي لهذا المبدأ (إعادة الهيكلة ) جاء بموجب النص التطبيقي المؤرخ في 27 فيفري 1980 .
لقد جاءت عملية إعادة الهيكلة من أجل رفع الإنتاج وتحسين التسيير , وذلك من خلال :
1- التقليص من المركزية البيروقراطية التي أصبحت تعرقل نشاطات المؤسسة وتقتل روح المبادرة والإبداع
2- تحميل مسيري هذه المؤسسات النتائج التي تحصل عليها مؤسساتهم
3- التخلص من نموذج تنمية مركز لمرحلة السبعينات , الذي يكلف الدولة مبالغ ضخمة خاصة بالعملة الصعبة وفي وقت عرفت إيراداتها تدهورا كبيرا
وبذلك فإن إعادة الهيكلة تقتضي انتقالا نوعيا نحو نمط جديد يختلف عن النموذج الذي كان في السابق , وذلك مما أدى بالدولة إلى الشروع في إصلاحات اقتصادية ابتداء من 1980 بالإضافة إلى ذلك فإن إعادة الهيكلة تهدف إلى تقليص حجم المؤسسات الوطنية العملاقة حتى يسهل تسييرها ومراقبتها .
وقد تمت عملية إعادة الهيكلة على مرحلتين :
1- المرحلة الأولى : تسمى إعادة الهيكلة العضوية : وتشكل القاعدة الأساسية في تطبيق عملية إعادة الهيكلة , وذلك من خلال تجزئة أو تقسيم المؤسسات الكبيرة وفقا لنشاطاتها إلى عدة مؤسسات صغيرة , حيث تنهض كل واحدة منها بجزء من النشاط العام الذي كانت تقوم المؤسسة الأم سابقا , وقد أعطيت الأولوية في هذا الشأن للمؤسسات التي تنتمي إلى القطاع الإنتاجي , والتي تحتوي على قوى بشرية هائلة ,
ونجد في مقدمة المؤسسات التي طبقت عليها هذه العملية مؤسسة "سونا طراك " التي قسمت إلى ثلاثة عشر مؤسسة , المؤسسة الوطنية "سوناكم " التي قسمت إلى إحدى عشر مؤسسة
2- المرحلة الثانية : تسمى إعادة الهيكلة العضوية , وتتمثل في منح استقلالية مالية للمؤسسة , وبذلك ترفع العراقيل المالية المتمثلة في الديون والخسائر المالية .
ولتحقيق الرقابة المالية على المؤسسات فقد بادرت الدولة إلى إدخال نظام لمراقبة النشاط المالي للمؤسسات الصناعية ,وذلك بهدف تحسين مردوديتها .
لقد أفضت عملية إعادة الهيكلة إلى إعداد برنامج خاص بالمؤسسة للتحكم في التسيير والإنتاج بعد تصغير حجمها ,وإجبارها بالنتيجة وفق الأهداف المسطرة في المخطط الوطني وذلك ما يدل على نوع من المركزية , غير أننا نرى بأن تحقيق المردودية
لا يتوقف فقط على مجرد تحسين الوضع المالي للمؤسسة وتصغير حجمها وإلا كيف نفسر وجود شركات عملاقة في الغرب مثل الشركات المتعددة الجنسيات التي تفوق مواردها موارد دولة كاملة , فالمشكلة هنا مرتبطة بنوعية العلاقات الإنسانية السائدة في المؤسسة الجزائرية وفي مدى وضوح الأهداف العامة المراد تحقيقها , ومدى انسجامها مع الأهداف الخاصة بالعاملين بها , وهذا ما تعانيه المؤسسة الجزائرية التي كانت " تفتقر إلى الإطارات المديرية في التسيير ,..." أي أن نقطة الضعف في التسيير تكمن في عدم تأهل الكثير من المسيرين لدور الإشراف وتسيير الموارد البشرية ) , وللتغلب على هذه المشاكل فإن ذلك يتوقف على مدى فعالية نظام الاتصال الرسمي ونشاط قنواته على مختلف مستويات التنظيم خاصة الاتجاه الصاعد أي من القاعدة إلى القمة والذي يتمخض عنه مشاركة القاعدة العملية في التسيير واتخاذ القرارات ,وهذا لن يتحقق إلا من خلال وجود إطارات ومسيرين قادرين على توجيه العمال ,وخلق روح التعاون بين القمة والقاعدة , وتوجيه جهودهم وتنسيقها في سبيل تحقيق أهداف المؤسسة .
المطلب الثاني : استقلالية المؤسسات ( 1988-1995)
إن عملية إعادة الهيكلة التي مست المؤسسات العمومية في مطلع الثمانينات لم تأتي بثمارها فيما يتعلق برفع مردو ديتها رغم التخلص من المركزية و العراقيل البيروقراطية و الدخول في مرحلة اللامركزية فلم تتمكن المؤسسات العمومية من التخلص من عجزها بالرغم من ال